أصــداء منوعةقصص ، روايات

رواية وادي الرمال .. الحلقة 39..

حـمــد الـنـاصــري

كـاتـب و قـاص

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة 39..

 

اشْتُهرت الكاهنة وجون، بمقولتها في المُجتمع السّاحلي ” لا شيء جوهري باقٍ لا يتغيّر، ولا شيء بعده يكتمل .”

وفي جلسة تاريخية مُشتركة بينها وبين قومها أهل قرية مجن الكبرى ، استعداداً لاستقبال وفد من قرية الوادي ، قام بتمهيده السيد ساعد مُستشار مملكة مجن الكبرى.

وقد تحدّث السيد ساعد والرجال في حضرة ملكة مجن:

ـ كما تعلمون أنّ القريتين والوادي اختلفا وتفرّقا وصار للناس أهواء وشِرعة ومِنهاجاً وسبيلاً في المُعتقد، كُل مُجتمع يُقرّ سِيرة له ، وعلى سبيل مُعتقده يَحتكم؛.

ثم تحدثت السيدة وجون إلى قومها وقالت بتلطّف:

ـ لقد رغبتُ في تثبيت مبادئ وقيم رجل هو أعزّ الناس إليّ، أبي مَعْن ملك مملكة تسمّت باسمه ، وقُداستها باقية لا تزول أبداً ، وها أنا عازمة إلى التقرّب من قرية الوادي لتكون لنا القوة والمَنعة الدائمة ، لإستمرار ثباتنا وصُمودنا وبقاء علاقتنا في وادي الرمال
والحقيقة نحن لسنا بمعزل عن مُتغيرات الرمال المُتسارعة نحو قيم جديدة ، يَخلقها الناس ويختلقون معايشها وفق ظروف تتناسب وزمنهم ، وما يَعجز عنه مُجتمع يأتي به مُجتمع آخر، فيستفيد الاول من التالي.؛

وما تعجز عنه المرأة في شأنها يجيء به الرجل فيكون هو الشأن الذي تبحث عنه.؛ هكذا خُلقنا، وذلك ما نختلف فيه بيننا ، فما لم تُنجزه المرأة يُحقّقه الرجل؟!

بُهت الرجال المُتحلّقون حولها ولم يستطيع أحدهم النُطق أو التعقيب على تساؤلات تملّكتهم جميعاً.؛

قال رجل مُقاطعاً حديثها ومُعقباً:

ـ أيتها السيدة .. إنّ حديثك كالخبر المُؤلم فظيع ومُزعج ،وما خفيَ أشدّ إيلاماً وأشدّ وجعاً ، كان خوفنا من المُخبرين والمُندسين بيننا ولكنّ الألم بدا يزداد وما بَطن أعظم والخبر كانْ والخوف كائن وما نخشى منه هو الحال الذي سنكون عليه.

ألْقت الكاهنة وجون نظرة ازدراء في الرجل وكأنه مسّها وأوجعها وقالت:

ـ إنّ الخلل في عِلّة الأشياء المِعْوجة التي تُبديها لنا؟ وأما القِيَم والسلوك بعيدتان عن أساليب لا ثقافة فيها ، غير ما استوحيتها من مرحلة ، تقادمت بفعل السنين ،مرحلة رجولة لم تُواكب مُتغيّرات الحياة بالرمال ، فالمِعوج لا يستقيم .

ساد صمت بين الناس.. لغة العيون تُخفي ما يدور بين المُتحلّقين.. وتُظهر ما تخشى الأفواه قوله.؛

نظرت في الوجوه وهزّت رأسها في ضيق قائلةً:

ـ يلزم أنْ تكون الحياة مُتساوية ، على ظهر رمالنا ، فلا تعَدّ على قِيم انشأها الذين كانوا قَبلنا وسَبقهم إليها أقواماً غيرهم ، رجالاً رسّخوا القيَم النبيلة واهتموا بالثوابت ، واليوم نجد خلافات مُستفزّة وتعدٍّ إلى ما ينهض بأمّتنا الكبرى ، أكثرها لا خلاق لها ، أدّتْ إلى تفرّق الرجال وتمزّق المُجتمع ، ولذا وجب علينا، استئصال جذورها وقطع رؤوسها .

ـ سيدتي إذا كُنّا ذاهبون إلى تسوية خلافاتنا في مجتمع الرمال ، فإنّي أرى ، أنّ الطّعن في أخلاقنا ليس من الامانة في شيء.؛ وفي ذلك استفزاز وظُلم كبير.؛

ـ أوجز . ؟ قالت السيدة وجون بنبرة غاضبة.

ـ مثلاً، تنفيذ القتل في الرجل العائد إلى القرية من بَعد سفر طويل، فالرجل ، كان صريحاً وتحدّث بصدق النية وعبّر عن خطأ قد ارتكبه في حق نفسه أولاً ، ثم اعترف بظُلمه لغيره ، فلماذا نلومه اليوم من بعد سِنين مضتْ ، لا نعرف ظروفها ، سِنين ولّتْ بأحداثها ، ألا نَعِي بأنّ لكل زمن وضع يختلف عمّا قبله ، وهكذا نحن نستمر ، فلماذا نصدر أحكاماً غليظة في شأنه؟. لماذا نحمل أفكاراً خطأ ، أشدّ جُرماً من ذلك الخطأ .؟

ألم يكُن الرجل مُكلّف من قِبَل سيّديْه أبيك معْن وعمك سَدح وثالث الثلاثة جدّكِ عُون السدّاح.! فلربما أنّ الرجل لم يكن لديه خيار آخر ، وكما يبدو أنّ الفرصة لم تُتاح له بشكل كافٍ ليعدلَ عمّا قام به من فِعْل الخطأ.؛

نحن معكِ أنّ الفِعْلة مُوجعة ولا نختلف في عُقوبتها ولكنّا نقول، ما ذنبه المسكين ويومئذ ، هو مَغلوب على أمره.؛ فإنْ عصَى ، فأنتِ تعلمين ماذا سوف يترتب على عِصيانه؛

أنظري إلى حالته وقد بلغ به حبّ القرية مَبلغاً لم يكن ببالغه لولا أنه تصرّف إلى فِعْلة قادته ليكون ذليلاً في قريته، خير من أن يكون ذليلاً في قبضة الغير ، إنّ أمرهُ اليوم بالغ الاهمية .

وقد سَعى الرجل سَعْياً أدّى به إلى الفرار والهروب من قبضة سيّديه مَعن وسدح، إلى قرية الوادي مُستغيثاً ومُستجيراً ، فأغاثوه ، وأسكنوه ونال الامان بمنفعة استقرّ بها وأهله .. وبعد زوال الخطر عن نفسه وأهله ، عاد إلى قريته ، مَوطن عزّته وكرامته.؛ ولجأ إلى سيّدة مجن الكبرى لتطمئنّ نفسه ويُعبّر عن حُزنه وقلقه.؛ أم هو ، قدرٌ يسوقه إلى عذابٍ أكبر ، وأنّ الخطر لا يزال يُلاحقه حتى وهو يستقرّ في موطنه؟ انظري في أمره .. إنه اليوم بين يديك .. فماذا تأمرين .؟

ــ ….. لم ترد عليه.

استأنف حديثه مُتسائلاً :

ـ إنه سرّ حديث النفس ، لا أبوح به لغير سيدة مجن الكُبرى .. فهل جزاء الرجل فناء حياته خارج وطنه مجن ، أم أنّ قدرهُ ساقهُ إلى القتل بين أهله وقومه؟

إني أراها ، عقوبة أشدّ نُكراً لجميل الرجل ، وأشدّ وقعاً من السيف الذي سوف تَقطع رقبته وتفصلها عن جسده ؟ إنها بشاعة فِعْل وغلظة فيها قسوةٍ؟ كيف لرجل يستجير بأهله ومُجتمعه ومن بَعد أنْ مُنح الامان ، تُقطع رقبته؟ كيف هذا .؟ بأي شريعة يموت.؟ وبأي ذنب يُقتل.؟ وهل تلك هي رسالتنا في وادي الرمال؟

سكت .. والسيدة وجون صامتة ، ثم اكمل..

ـ إنّا نطلب عَفو سيدتنا ، ونحن واثقين بأنها جُزء مِنا ، وقد قِيْل مَن صَفح وتنازل عن سُوء فِعْلة اطْمأنّ واستقرّ.؛

قالت السيدة وجون باستنكار وتعجب بالغ الاثر :

ـ اتشفع في خائن وقد وقعت أفعاله إلى تعدِ صارخ لحياة الآخرين وتعريضها إلى دوافع الانتقام ، أفعال يستنكرها الاريب الامين لوطنه الأم قرية مجن الكبرى؛

إنّ الالتفات إلى الخائنين خيانة عُظمى ، تجعلنا أكثر عُرضة إلى زعزعة أمن مجن الكبرى واضطراب أمنيّ في قرى الساحل .؛ وربما هو مأزق الغرض منه تدمير اقتصادنا وزعزعة ربوعنا وتشتيت افكار قومنا بجعل الاختلاف بيننا بؤرة لا تُسدّ.

لا أتحدّث هُنا عن تجريم ثابت لكني أتعجّب من الذين يُطالبون بتجاوز تجريم يستحق العقوبة.؟

فطن الرجل إلى ما ترمي إليه السيدة وُجون فعقب في الحال:

ـ لا .. ليس كل حديث ثابت ولكنّ العمل الصحيح هو الثابت .؛ فمن أضرار تفكيرنا قول مُطلق وقِيْل معموم وأحاديث ننقلها كخبر عن الآخرين وكُل خبر مجهول لا يمنحنا فُرصة تقويم العلاقة ، فقد تُدمّر أخبارهُ مودّة بعضنا ، وكل عقوبة بشعة ، يتحمّل مُنفّذها أوزار علائق عُدوانية قد تطغى على أهم مُشكلاتنا ، فتنزيل العقوبة وتجريم الآخرين ، تفكيراً قد يحملنا إلى الاختلاف ومن ثم الشتات والتمزّق .؟

عقّبت سيّدة مَجن الكبرى قائلة:

ـ أنا أشعر بالقلق .؛ وأشعر بعلائق العدوانية المُتسترة وأشعر بتأثير الأحداث؟ كما أشْعر ببواعث فقدان الثقة في مُستقبل مملكة مجن الكبرى إنْ لم تُمّحى مثل تلك الأفعال ، فلا اطمئنان ، وكل نُقطة سوداء علينا أن نمحُها في الحال إذا استشعرنا بضررها على المُجتمع؛

فاطمئن ، نحن في مملكة مجن ، نرى ، أنّ أهمية تنفيذ العقوبة لازمة ولن تكون أشدّ وجعاً أو نُكراً من خيانة الوطن.

لم يبزم بعدها أحد بحرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى