أصداء وآراء

الأمن القومي العربي في حسابات واستراتيجيات الأمن القومي الصهيوني..

الكاتـب/ نَـواف الـزَّرو

باحث خبيـر في الصـراع العـربي الإسرائيلي

 

الأمن القومي العربي في حسابات واستراتيجيات الأمن القومي الصهيوني..

كأن ما يجري في الدول العربية في المشهد الراهن، من حروب داخلية وغزوات خارجية، ومن فوضى وتخريب، وتفكيك وانهيار للأمن ال قطر ي والقومي العربي على حد سواء، إنما يلبي مخططات ورغبات صهيونية قديمة كامنة، وكأن ما يجري للأمة العربية في هذا الزمن، وبعد أكثر من اثنين وسبعين عامًا من النكبة المفتوحة واغتصاب فلسطين، وثلاثة وخمسين عامًا على هزيمة حزيران، من غياب وتغييب وفقدان للبوصلة والدور والوزن على المستوى الإقليمي والدولي، إنما يخدم تلك الأجندة الصهيونية، فما الذي بحثت عنه وأرادته الصهيونية منذ نشأتها، سوى هذا المشهد العربي المتفكك والضعيف والمجرد من عناصر القوة الاستراتيجية، لصالح الأمن القومي الإسرائيلي؟!

منع الوحدة العربية وإثارة الفتن الطائفية..

منذ أن كان مشروع “الوطن القومي لليهود في فلسطين” فكرة في رؤوس أقطاب الحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، خططوا وأعدوا العدة لتهيئة المناخات المحلية والإقليمية والدولية لولادة غير طبيعية لذلك المولود الصهيوني، وكان ذلك يستلزم منهم في مقدمة ما يستلزم، العمل من أجل حياة وبقاء ذلك المولود، وذلك ما كان عبر عنه جنرالهم الأسبق موشيه ديان، في لقاء مع مجلة بمحنيه الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي قائلًا: “إننا/أي إسرائيل/ قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أن الأعضاء الأخرى /العرب/ هناك ترفض قبول هذا القلب المزروع، ولذلك لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بالمزيد والمزيد من الحقن المنشطة، من أجل التغلب على هذا الرفض”، مؤكدًا: “الأمر بالنسبة لنا حتمية حياتية-انتهى الاقتباس-“، وكي يعيش هذا القلب المزروع لأطول فترة من الزمن في هذا المحيط الرافض، طور قادتهم ومنظروهم ما يمكن أن نطلق عليه نظريات ومرتكزات الأمنا القومي الاسرائيلي، التي تقوم بالأساس ليس فقط على تطوير القدرات العسكرية الإسرائيلية، وإنما أيضًا على تنظيف المنطقة من عناصر القوة العربية المهددة للوجود الصهيوني.

أما عناصر القوة العربية التي تشكل تهديدات محتملة لوجود ومستقبل ذلك المولود المزروع في الجسم العربي، ففي مقدمتها من وجهة نظرهم الوحدة العربية، التي إن تحققت ما بين عرب آسيا من جهة، وعرب شمال إفريقيا من جهة أخرى، فإن ذلك يعني نهاية دولتهم، وقد أدركوا ذلك مبكرًا جدًا بعقلية الغرب الاستعماري، ولذلك بعد أن نشر الكاتب والمفكر القومي العربي نجيب عازوري في نهاية 1904 كتابه “بلاد العرب للعرب”، وكتابه “يقظة الأمة العربية” 1905، ودعيا فيهما إلى الحذر من الاستعمار والمشروع الصهيوني، قال ماكس نوردو أحد كبار مؤسسي ومنظري الصهيونية: “إن أكبر أعدائنا هم القوميون دعاة العروبة خارج أرض إسرائيل، وخصومنا في سوريا ومصر، الذين يقومون بكل ما في وسعهم لإثارة شعور الكراهية ضد الصهيونية والهجرة اليهودية إلى أرض إسرائيل”، كما رفع ناحوم سوكولوف من الآباء المنظرين للفكر الصهيوني مبكرًا، مذكرة إلى الخارجية البريطانية بتاريخ 1916-4-12 قال فيها: “إن انشاء كومنويلث يهودي في فلسطين تحت حماية انجلترا سيقيم جدارًا فاصلًا بين عرب آسيا وعرب الشمال الإفريقي، وهذا سيكون فيه خدمة كبرى لدولة تضم في حوزتها عربًا من الجانبين”.

لقد خشيت “إسرائيل” من الوحدة القومية العربية، كما تخشى من جهة اخرى أي وحدة إسلامية حقيقية، ودعت لمواجهة المد القومي العربي، إلى جانب تشكيلها فرقًا استخبارية مهمتها الأساسية تحريض الأقليات الدينية والاثنية في الدول العربية ضد العرب، وفي هذا الصدد، وبعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، أرسل بن غوريون رسالة إلى الرئيس الامريكي ايزنهاور، تناول فيها خطر قيام الوحدة على أمن إسرائيل، وقال فيها: “إن إسرائيل بحاجة إلى مانع قوي يصد عنها احتمالات الهجوم العربي، وإن هذا المانع لا يمكن أن يتمثل؛ إلا في أن يكون لإسرائيل جيش قوي، تستطيع أن تواجه به تيار الوحدة الذي يزداد قوة”، وفي رسالة ثانية للرئيس الأمريكي قال بن غوريون: “إن عوامل الوحدة العربية تعمل بنشاط، وإذا نجح مسعاها، فإن حصار إسرائيل يصبح كاملًا، وتصبح جيوش الدول العربية قادرة على أن توجه إليها ضربات خطيرة من جبهات متعددة، وسوف يعني ذلك تدهورًا خطيرًا في مقتضيات أمن إسرائيل، لأنه كما تعلم بخبرتك العسكرية الفذة، ليس لإسرائيل أي عمق من الناحية الجغرافية”.

ولذلك، كان لـ”اسرائيل” والغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، دورًا مركزيًا في العمل على الانفصال وضرب الوحدة العربية بأيدٍ عربية، وتواصلت المؤامرة لإسقاط ليس فقط نظام الرئيس عبد الناصر، وإنما فكرة ومشروع الوحدة -أي وحدة- عربية، وما تزال…!

السيطرة الاستراتيجية على الشرق الاوسط..

 وتتكامل المهمات الصهيونية في هذا الإطار الاستراتيجي، فضرب الوحدة العربية، وإغراق الأمة العربية بالنزاعات والحروب الداخلية، إنما تؤدي في الحاصل الاستراتيجي إلى السيطرة الاستراتيجية الإسرائيلية على منطقة الشرق الأوسط برمته، وهذا ما حرصت وتحرص عليه أيضًا الإدارة الامريكية ومعها الدول الأوروبية التي تجمع على “الحفاظ على التفوق العسكري-الاستراتيجي الإسرائيلي في منطقة الشرق الاوسط”: ف”الهدف الرئيسي للسياسات الإسرائيلية هو السيطرة الإقليمية على الشرق الأوسط بأكمله، والمخطط الإسرائيلي هو تحييد الفلسطينيين والسيطرة التامة عليهم، حتى تتفرغ إسرائيل لتحقيق أهدافها الحقيقية، والسيطرة على الشرق الأوسط، أكثر أهمية في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي، ومن أهم وسائل “إسرائيل” في تنفيذ مخططاتها هو النفوذ الإسرائيلي على السياسات الأمريكية- كما أكد البروفيسور الاسرائيلي إسرائيل شاحك-“، وعن الأسلحة الاستراتيجية أضاف شاحك: “إن إسرائيل لا يمكن أن تسمح لأية دولة في الشرق الأوسط بتطوير إمكانيات نووية، وتعطي لنفسها الحق في استخدام ما تراه مناسبًا من وسائل لمنع مثل هذا الاحتمال، حتى تظل في وضع احتكار السلاح النووي وامتلاك الرادع النووي دون منازع”، وهي النظرية التي عرفت ب”نظرية بيغن” ومفادها أنه: “يتوجب على إسرائيل السعي بصورة فعلية إلى منع أي محاولة عربية لإنتاج سلاح نووي”، والتعبير الفعلي- التطبيقي- لهذه النظرية كان من خلال تدمير المفاعل النووي العراقي” تموز” في 7 حزيران 1981 على يد سلاح الطيران الإسرائيلي، وقال بيغن في أعقاب هذه العملية: “نحن لن نقبل بأي شكل من الأشكال، أو شرط من الشروط، أن يقوم عدونا بتطوير سلاح دمار شامل ضد شعبنا”، وكذلك بعمليات القصف والتدمير التي نفذتها “إسرائيل” ضد ما زعم أنها منشآت نووية وكيماوية وصاروخية سورية”، مذكرين بسلسة الاغتيالات التي نفذتها الأذرع الاستخبارية الإسرائيلية، ضد نخب من علماء الذرة الألمان والمصريين والعراقيين.

الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ قيام دولتهم، رأت أن امتلاك أي دولة عربية، أو حتى شرق أوسطية للسلاح النووي أو لمفاعل نووي حتى لأغراض مدنية -سلمية-، يشكل خطرًا على مصالحها القائمة، وعلى مستقبلها العسكري والاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ينسجم مع الخط السياسي الذي أكده بيغن في “أن إسرائيل يجب أن تبقى مالكة مفتاح التفوق العسكري”.

التعليم والعلم والتكنولوجيا والاقتصاد..

غير أن عناصر السيطرة الاستراتيجية الإسرائيلية على الشرق الأوسط، لا تكتمل بالنسبة لهم، إلا بالسيطرة التعليمية والعلمية والتكنولوجية والاقتصادية كذلك، لذلك اعتبر قادة الصهيونية و”إسرائيل”، أن التعليم والعلم والتكنولوجيا والاقتصاد، من أهم عناصر القوة للدولة الصهيونية، فحرصوا من جهة أولى على تطوير قدراتهم في هذه الحقول، في الوقت الذي عملوا فيه على تعطيل تطور العرب العلمي، ما أشار له الكاتب اليساري توم سيغف في كتابه (الإسرائيليون الأوائل) مؤكدًا الأهمية الاستراتيجية للتعليم في بداية “تأسيس إسرائيل”، بالقول: “التعليم مصنعٌ لإنتاج روح الأمة وهو السلاح السري لليهود”، وإذا كان “التعليم هو السلاح السري لليهود” لدى سيغف، فإنه قضية وجودية بالنسبة لرئيس معهد التخنيون – معهد الهندسة والعلوم التطبيقية الإسرائيلي بمدينة حيفا سابقًا- البروفيسور بيرتس لافي الذي قال: “إن تدريس العلوم  قضية وجودية لإسرائيل”.

ونستحضر هنا، أنه منذ البدايات لكيانهم، طلب بن غوريون من وزيري التعليم والعلوم الإسرائيليين “إعداد خطة استراتيجية تضمن تطور وتفوق إسرائيل في العلم والتعليم والتكنولوجيا على العرب”، وربما كان الجنرال باراك وزير الحرب ورئيس الوزراء سابقًا، خير وأفضل من صاغ الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية في هذه الأبعاد، حينما أعلن أكثر من مرة: “إن إسرائيل أقوى دولة في محيط 1500 كيلومتر.. وهي دولة قوية جدًا.. وعندما أتحدث عن القوة لا أقصد فقط الجيش الإسرائيلي، وإنما القوة الشاملة، بدءًا من معهد وايزمن وفرقة بات شيبع، والفرقة الفرهمونية، وصولًا إلى المفاعل النووي في ديمونة”.

فلا شك أن أدق وأصوب مقاييس التقدم في عالمنا الراهن، هي مقاييس العلم بكل حقوله وأشكاله، ولا شك أن السبيل الأول للنهضة والتنمية البشرية لدى أي مجتمع هو العلم، ولا شك أيضًا أن التربية والتعليم، هي قاعدة الانطلاق نحو النهضة العلمية، فبدون علم وتربية وتعليم، لن تكون هناك نهضة أو تنمية لأي أمة، فمثل هذه المقاييس العلمية هي التي تميز عمليًا بين أمة وأخرى، وبين شعب وآخر، وبين دولة وأخرى، ونحن كأمة عربية على امتداد المساحة العربية، نفتقر وفق الدراسات والتحقيقات الاستقصائية، إلى قدر كبير مفجع من المقاييس العلمية، مقارنة بالدول والمجتمعات الأخرى، وربما نقول مقارنة على نحو خاص ب”إسرائيل” التي تعتبر صراعها مع العرب صراع وجود وتفوق وسيطرة استراتيجية، تستند بالأساس إلى التفوق العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، وبالتالي العسكري، بل وأكثر من ذلك، فهي تحرص على شن حروب علنية وخفية كي تبقى أمة العرب، بلا علم وبلا تربية وتعليم، وبلا تكنولوجيا ترفع من شأنها الى مصاف الدول المتطورة.

يقظة الأمة العربية..

نعتقد أن المؤسسة الصهيونية بكافة عناوينها الأمنية العسكرية والسياسية، وبكافة امتداداتها الداخلية والخارجية، وصولًا إلى لوبياتها المتنفذة في الولايات المتحدة وأوروبا، لن تتوقف في يوم من الأيام أبدًا، عن مهماتها الاستراتيجية الرامية إلى تنظيف المنطقة العربية من عناصر القوة العربية المتنوعة المشار إليها، مضافًا إليها عشرات العناصر الأخرى المتفرعة عنها، في كافة الحقول التعليمية-العلمية-التكنولوجية-الاقتصادية، وذلك في إطار صراع يعتبرونه وجوديًا وجذريًا- إما نحن وإما هم – وحتى لو تم التوصل إلى تسوية سياسية شاملة من المعتقد أنها لن تكون متناددة، فالأوضاع والأحوال العربية الراهنة لا تعطي العرب موقفًا نديًا مع ذلك الكيان، يتيح لهم بناء عناصر القوة المتكاملة، في العلم والتعليم والتكنولوجيا والاقتصاد، وبالتالي على المستوى العسكري الاستراتيجي، وهذا ما يعيدنا ربما على نحو عاجل، إلى المربع الأول للصراع مع المشروع الصهيوني، بوصفه صراع وجود وبقاء، ما يستدعي أن تستيقظ الأمة على نحو متجدد وحقيقي، للخروج من أحوالها وحروبها- داحس والغبراء- الراهنة، نحو آفاق جديدة، وأن تعمل على إعادة ترتيب أوراقها وقدراتها وأجنداتها السياسية والاستراتيجية، تعيد إلى قمتها فلسطين البوصلة، والصراع مع المشروع الصهيوني كأولوية عاجلة عاجلة.

فأين العرب يا ترى من كل ذلك ؟!! ومتى نرى فجرًا عربيًا آخر مختلفًا عن الراهن العربي القُطْري الطائفي الإثني المفكك والمهزوم ؟!

إنه الحلم العربي الممتد على نحو قرن من الزمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى