أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

بـصـمـة دم !!..

السـفـيـر/ معـصـوم مـرزوق

 

بـصـمـة دم !!..

 

ذلك الطفل “محمد الدرة” .. خلف ساتر ومن ورائه احتواه أبوه بين ذراعيه وهو يشير إلي آلة القتل كي تتوقف فلا تتوقف ، يسقط الطفل مضرجاً في دمائه بين ذراعي أبيه العاجز المذهول ذلك المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية لم يستغرق سوي لحظات ، لكنه يطاردني منذ ذلك الوقت في صحوي ومنامي..

ليس مقتل الطفل – رغم فظاعته – هو المؤلم ، وإنما ملامح الأب المشلول العاجز عن حماية فلذة كبده ، إنها نفس ملامح ملايين الآباء الذين شلهم الفقر وعجزوا عن حماية أطفالهم من الموت جوعاً .. إنه قهر الرجال ، والشعور بعبثية أفكار العدل والحب والنبل والفروسية..

صفوف الأسرى المصريّين الذين اغتالتهم أصابع غادرة ضغطت على الزناد في خسة ودناءة ، مشهد آخر لا ينبغي أن يفارق العقل الجمعي حتي تجيئ لحظة الحساب والعقاب ، إذ يجب أن نواصل رواية الحكاية حتي لا تغيب في دخان الدروشة الأزرق ، يجب ألا ننسي أو نسامح مهما كانت مزامير داوود رائعة موحية ، ليظل مزمور الأسري عازفاً نازفاً أعلى من أوركسترا فيينا ، وعبقريات باخ وتشايكوفسكي وموتزارت ..

إن عالم اليوم لا يحكمه الفلاسفة والشعراء وعازفي الكمان ، وإنما يحكمه الجزارون وشُذّاذ الآفاق وقُطّاع الطرق ، ولن يفل الحديد سوى الحديد ، فالسلام لم يتحقق في تاريخ البشرية بالمناشدات والاسترحامات والمبادرات والنوايا الطيبة ، وإنما كان دائماً يتحقق بحد القوة التي تفرض على الخصم الإستسلام ، والقوة ليست مجرد آلة الحرب وحدها – على أهميتها – وإنما هي إرادة التحرر الساعية إلى امتلاك أسباب القوة الشاملة..

وفي هذا الإطار تبرز أهمية “نيوتن” و “فيثاغورث” و “أوبنهايمر” ، وتتجاوز أي أهمية أو فائدة لـ “بيتهوفن” أو “هاندل” أو “زكريا أحمد” ، يصبح العلم وسيلة لا غني عنها للخروج من مأزق الواقع المفروض ، وتصبح الإرادة الحرة بنفس أهمية الماء والهواء ، وهي أمور ممكنة ليست مستحيلة ، وهي ليست مجرد خيار بين خيارات أخري ، بل فرض حتمي لا مناص عنه..

من المؤسف أن تستدرج السطور إلى صلادة الصخور ، أن تتمزق بيوت الشعر على أسنة الحراب ، أن يعلو صوت البوم على زغرودة المزمار ، ولكن ذلك قدر جيل يولد من رحم معذب ويجب أن نقطع حبله الصري فوراً كي يشرع في السير علي قدميه منذ اللحظة الأولى ، فهذا الجيل من الآباء الجدد يجب ألا يقبل بعجز والد “محمد الدرة” ، أو بالعار الذي تغلفه مزامير الجهل أو دعة ذل عيش العبيد..

كنا على جبهة قناة السويس لا نحلم بالعبور ، وإنما نتدرب عليه ، لم نكن نتضرع إلى الله أن يرسل صاعقة على الشاطئ الآخر ، وإنما قذفنا بطلقاتنا في صدور الأعداء بلا رحمة ، وداست أقدامنا صاعقة ذلك الشاطئ ، وقبل أن ننتصر على عدونا انتصرنا على خوفنا وترددنا ، ورفضنا كل مزامير الوقوعيّين من أبناء جلدتنا الذين كانوا يرون استحالة النصر وحكمة أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونسلم للعدو شرفنا وماضينا ومستقبلنا .. لو اكتفينا بالحلم لكنا حتى هذه اللحظة نحلم بالعبور ربما من شاطئ النيل الغربي إلى شطه الشرقي !!

لقد تحدث السلاح أبلغ مما تحدث به كل الشعراء ، وكان صوت إنفجار دبابات وطائرات العدو أشجى من صوت أم كلثوم ، وكانت أجساد الشهداء أكثر نبضاً بالحياة من أجساد الأغبياء الذين ارتضوا أن يدفعوا ذلهم ثمناً للحياة ، وكـانت إبتســـامة رقيب فصـيلتي “رضوان”  لحظة العبور ، أكثر جمالاً وإيحاءً من إبتسامة “المونا ليزا”..

أنا لا أنازع النوستالجيا أو سحرها ، ولكنني صرت أمقت البكاء على الأطلال ، وأكره الأغاني التي تشكو من عذاب الحرمان وقهر الحبيب ، وليصفح لي الصديق الأعز جرأتي على زمن أعشقه كما يعشقه وأتمناه كما يتمناه ، إلا أنني أتذكر دائماً مقولة بريخت : “إن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة ، لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولاً” .. وأظن أنه يتفق معي في أن الحديث عن الأشجار لا يزال جميلاً ، ولكن أين هي تلك الأشجار التي يمكن أن نتحدث عن جمالها ؟؟..

لقد انحسر الإبداع الذي كان واحة يلجأ إليها القلم كي يستظل بنخيلها السامقة ، ويبلّل شفتيه بمداد ينابيعها المتدفقة ، ويسترخي بدنه المرهق على رمالها الناعمة الدافئة ، بل ولم يعد المقال يشفي الغليل ، بعد أن ثار الشك في جدوى الكتابة نفسها في زمن يتطلب الفعل والحركة ، زمن يفرض قبحه على ريشة الفنان فلا تنقش على اللوحات سوى كوابيس الواقع بألوان وخطوط تخدش النفوس المرهفة وتجرحها وتدميها..

وبالمناسبة كنت مؤخراً في جاليري لفنان عالمي كبير ، ووجدت أنه وضع “فردة حذاء قذر” داخل إطار ، حذاء حقيقي وليس خطوطاً في لوحة .. لم يدهشني زحام الزائرين حول هذه اللوحة المعبرة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى