
أوزبكستان.. حينما يكتب الحجر موسيقى الطريق
الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد
لم يكن طريق الحرير حكاية قوافل محمّلة بالبضائع، ولا مجرد شريان يربط الشرق بالغرب؛ كان نصًا مفتوحًا على ألف لغة وألف حضارة، تكتبه الرمال بمدادها، وتخطّه الجبال بقممها، وتغنيه المدن بأصوات مآذنها وسوقها وأهازيج شعوبها. وفي قلب هذا النص المتشابك، تبرز أوزبكستان لا كجغرافيا محايدة، بل كصفحة مضيئة في كتاب الإنسانية، حيث تتحوّل الأحجار إلى أوتار، والجدران إلى موسيقى، والطرقات إلى ذاكرة حيّة تتردّد عبر العصور.
في مدن أوزبكستان، لا يشيخ الحجر كما يشيخ في أمكنة أخرى. قبابٌ ما زالت تحرس السماء كأنها عين ساهرة، وجدرانٌ ملونة بالفسيفساء الزرقاء التي لا تخفت رغم قسوة الزمن، وأبواب خشبية تحمل في نقوشها ملامح من صلواتٍ قديمة وأحلام صغارٍ ناموا ذات ليلة على وقع قوافل العائدين من الشرق الأقصى.
هنا، لا يُقرأ التاريخ في الكتب، بل يُلمَس باليد ويُسمع بالأذن وتشهده العين في صمت مهيب. لعل ما يميز أوزبكستان ليس فقط آثارها الماثلة، بل ذلك الخيط الموسيقي الذي ينساب في كل تفاصيلها. إيقاع سنابك الخيل التي عبرت صحاريها، أصوات الباعة في الأسواق القديمة، خرير المياه في قنوات الريّ، وصدى التلاوات في المساجد والمدارس. كل ذلك يتداخل ليصنع سيمفونية كبرى، لا يملك السامع أمامها إلا أن ينصت بإجلال، وكأن المكان يعزف ذاته منذ قرون.
لم يكن المسافرون على طريق الحرير يحملون معهم البضائع وحسب؛ كانوا يحملون الأغنية والقصيدة والحكمة. كانوا يتركون خلفهم بذورًا من المعارف لتُثمر لاحقًا في أرض لم يعرفوها. ولعل أوزبكستان كانت أكثر من أرضٍ عابرة؛ كانت أرضًا حاضنة، تُعيد صياغة ما يصلها، ثم تمنحه للعالم في صورة أعمق وأجمل.
اليوم، حين يقف المسافر أمام تلك المدن التي تنبض بالحجر والموسيقى، يدرك أن الحضارات لا تُبنى بالقوة المادية وحدها، بل بما تتركه من أثر في الروح. ومن هنا، فإن أوزبكستان ليست دعوة إلى الترحال وحده، بل إلى الإصغاء: إصغاءٍ إلى موسيقى التاريخ، وإلى ذلك الحوار الخفي بين الإنسان والأرض، بين الذاكرة والمستقبل.
في زمن تُطوى فيه المسافات بالطائرات، وتُختزل الحضارات في شاشات، تبقى أوزبكستان شاهدة على أن الطريق ليس دائمًا مسافة، بل روحٌ ممتدة. هي الطريق العظيم الذي يواصل عزف موسيقاه، يدعونا أن ننصت ونكتشف ونؤمن بأن التاريخ حين يُعزَف على الحجر، يبقى خالدًا إلى الأبد.