ثقافة وأدبعُـمانعمان والعالم

العين .. مدينة تروي التاريخ وتحتضن المستقبل .. تجربة عُمانية في دروب السياحة الثقافية والتراثية

مسقط/ أصـــداء

 

في صباحٍ دافئ من أيام نوفمبر بدأت الرحلة الصحفية التي ضمّت مجموعة من الصحفيين العُمانيين نحو مدينة العين تلك الواحة الخضراء التي تتوسد رمال إمارة أبوظبي وتحمل بين جنباتها ذاكرة التاريخ وروح الحداثة في تناغمٍ فريد.

 

الرحلة التي نظمتها دائرة الثقافة والسياحة في حكومة أبوظبي بإشراف وكالة Ogilvy جاءت لتفتح أمام المشاركين نافذة على مدينةٍ لا تكتفي بسحر طبيعتها، بل تتباهى بثرائها الثقافي، ومقوماتها السياحية والاستثمارية التي تجعل منها جوهرة الصحراء الإماراتية. كانت الوجوه مفعمة بالتوقع، والكاميرات تستعد لالتقاط كل زاوية من تفاصيل المدينة. لم تكن الزيارة مجرد جولة ميدانية، بل تجربة غنية حملت في طياتها مزيجاً من المعرفة والمغامرة، والدهشة الأولى أمام الجمال الذي لا تنقضي عجائبه.

كهف الملح.. حيث تتنفس الصحراء

توقفت القافلة في أولى محطاتها عند كهف الملح في جبل حفيت، المشروع السياحي العلاجي الذي يعيد تعريف مفهوم الاستجمام في بيئة طبيعية فريدة. عند مدخل الكهف، تتناثر حبيبات الملح على الجدران كأنها حبات لؤلؤ نثرتها يد فنان، فيما يعبق الهواء برائحة البحر رغم بعده مئات الكيلومترات. يدخل الصحفيون الكهف في صمت مهيب، يتنفسون الهواء المالح الغني بالمعادن، ويشعرون بتلك الخفة التي يمنحها العلاج الطبيعي عبر التنفس العميق.

كانت التجربة أشبه برحلة داخل الجسد نفسه؛ حيث يسهم الجو المالح في تنشيط الدورة الدموية وتجديد الخلايا وتقوية المناعة، فيما تنساب موسيقى هادئة في الخلفية لتكمل مشهد الاسترخاء. وفي الخارج، تدعو المياه الكبريتية الزوار إلى جلسة استشفاء في بركٍ دافئة تفيض بالراحة والسكينة، فيتلاقى الطب الحديث مع حكمة الطبيعة في أجواء تنعش الحواس وتمنح الجسد توازنه من جديد.

FARM13.. مزرعة تحولت إلى حديقة من الإبداع

من الجبل إلى السهول، انتقل الصحفيون إلى وجهةٍ أخرى مختلفة تماماً نحو مشروع FARM13 وهو أحد النماذج الاستثمارية الزراعية المبتكرة في العين. منذ الوهلة الأولى، يبدو المكان كلوحة فنية خضراء وسط الصحراء الذهبية. الأشجار تمتد بظلالها، والطيور النادرة تحلّق في أجواءٍ تنبض بالحياة. المشروع الذي انطلق كمزرعة خاصة، تحوّل برؤية استثمارية رائدة إلى حديقة متعددة الأنشطة تضم مزيجاً من الزراعة، الترفيه، والاستثمار البيئي.

في جولة قصيرة داخل المزرعة، شاهد الصحفيون محمية صغيرة للحيوانات والطيور النادرة، وساحاتٍ للتدريب على الخيل والقفز الحر، إضافة إلى مرافق ترفيهية حديثة تشمل حديقة مائية وممرات علاجية وسط الطبيعة، وعدداً من المقاهي والمطاعم التي تجمع بين المذاق المحلي والتجربة الحديثة.
هنا يلتقي العمل الزراعي بالإبداع السياحي، لتتحول المزرعة إلى مساحة نابضة بالحياة تجمع بين الإنسان والطبيعة في مشهدٍ يعكس فلسفة العين في الجمع بين التنمية والاستدامة. ليل الصحراء.. خلوة تحت ضوء القمر حين أسدل الليل أستاره على المدينة، انتقل الوفد الصحفي إلى تجربة فندقية استثنائية في قلب صحراء إمارة أبوظبي.

في مساحةٍ مترامية الأطراف من الرمال الذهبية، أقيمت خيام فاخرة تستحضر ملامح الحياة البدوية الأصيلة ولكن بطابعٍ عصري فخم. هنا، لا يسمع الزائر سوى همس الرياح ورنين الرمال تحت خطواته، فيجد في تلك العزلة سكينة لا تضاهيها إقامة فندقية في أي مكان آخر.

تبدأ المغامرة مع سفاري الرمال، حيث تمتد الكثبان بلا نهاية، والسيارات تندفع فوقها في مشهدٍ يلهب الحماس. يتبعها التزلج على الرمال في تجربة توازنٍ بين المغامرة والضحك، قبل أن يتحلّق الجميع حول النار لتجربة رمي السهام على الهدف تحت ضوء القمر. في تلك اللحظات، أحس الجميع أن الصحراء ليست فراغاً، بل حياةٌ خفية تنبض في كل ذرة رمل، وحكاية تُروى في صمت الليل الدافئ.

متحف العين.. رحلة في ذاكرة الزمن

في اليوم التالي، كان موعد اللقاء مع التاريخ، حيث قصد الصحفيون متحف العين، أول متحف في دولة الإمارات العربية المتحدة الذي تأسس عام 1969 برؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – ليحفظ ذاكرة الإنسان على هذه الأرض. عند الدخول، بدا المكان كأنه جسر بين العصور؛ من العصر الحجري الذي شهد أولى أدوات الإنسان المصنوعة من الحجارة إلى العصر البرونزي حيث صاغ المعادن وصنع الأسلحة وتبادل السلع مع الحضارات الأخرى، وصولاً إلى العصر الحديدي الذي ابتكر فيه نظام الأفلاج العبقري أحد أروع المنجزات في تاريخ الري والزراعة.

تجول الصحفيون بين القاعات المضيئة، حيث تتحدث القطع الأثرية بلغةٍ لا تحتاج إلى شرح. كل أداة، وكل فخار، وكل نقش، يحكي فصلاً من حكاية الإنسان الذي عاش على هذه الأرض وصنع من قسوة الطبيعة حضارة. وخارج أسوار المتحف، تمتد الآبار والقنوات الجوفية التي حفرها الأجداد منذ آلاف السنين، كشواهد حية على عبقريتهم في التكيف مع البيئة واستثمار مواردها النادرة.

سوق القطارة.. الأصالة التي لا تغيب

بعد جولةٍ بين أروقة التاريخ، توجه الفريق إلى سوق القطارة التراثي، الذي يشكل قلباً نابضاً بالتراث الإماراتي. منذ الخطوة الأولى، تتسلل رائحة القهوة العربية والهيل إلى المكان، وتتعانق أصوات الحرفيين مع ضحكات الزوار.

في السوق، تتجاور المنتجات الحرفية اليدوية – من الفخار والنسيج والسعف – مع المعروضات الحديثة التي تحمل لمسة الأصالة في ثوبٍ معاصر. كما يحتضن السوق فعاليات ثقافية وفنية تحيي التراث الشعبي، وتتيح للأسر المنتجة عرض أعمالها، لتستمر الحرفة في الحياة جيلاً بعد جيل.
لقد كان المشهد أشبه بمهرجانٍ صغير للهوية، حيث تتجسد روح الإمارات الأصيلة التي تحترم الماضي وتؤمن بقدرته على الإلهام.

منتجع تلال العين.. ختام الرحلة بنكهة الفخامة الصحراوية

وفي نهاية الرحلة، كان الختام في منتجع تلال العين السياحي، أحد أجمل المنتجعات الصحراوية في المنطقة، الواقع في قلب صحراء رماح على مشارف المدينة.

هناك، يمتزج الهدوء المطلق برفاهية التفاصيل؛ فيلات تراثية بإطلالاتٍ بانورامية على الرمال، مطاعم تقدم المأكولات العربية الأصيلة، وقرية تراثية تحمل اسم «زمان أول» تحاكي أسلوب الحياة البدوية القديمة بكل تفاصيلها. وفي المحمية المحيطة بالمنتجع، تتجول الظباء والإبل بحرية بين التلال، في مشهدٍ طبيعي يعيد الزائر إلى أصل المكان. كما استمتع الصحفيون بجولةٍ على الجمال، ورحلات سفاري قصيرة فوق الكثبان، قبل أن يجتمعوا عند الغروب، حيث انعكست أشعة الشمس على الرمال بلونٍ ذهبيٍ خلاب، ليختموا رحلتهم بتجربةٍ تمزج بين التأمل والجمال.

العين.. ذاكرة لا تنتهي

مع غروب شمس اليوم الأخير، كانت ملامح المدينة تودع الوفد العُماني بحفاوةٍ صامتة، وكأنها تهمس لكل زائر: “من يأتِ إلى العين، لا يغادرها كما جاء.” رحلة لم تكن مجرد تنقّل بين المواقع، بل كانت رحلة في قلب الإنسان، حيث يلتقي الماضي بالمستقبل، والحلم بالواقع.

العين، تلك المدينة التي جمعت بين عبق التاريخ وأناقة الحداثة، ستظل واحةً للدهشة ومقصداً لكل من يبحث عن تجربةٍ سياحية تُلامس الروح قبل أن تُرضي العين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى