زجـاجـة الجـبـن !!..

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي
زجـاجـة الجـبـن !!..
حين أطلقت وزارة التربية سراحي في العام 2000 لمواصلة دراستي العليا بعد ست سنوات من الركض واللهاث وحرق الأعصاب وقرع الأبواب وتوجيه الرسائل ونقش الخطابات.
*****
قررت السفر إلى استراليا ..
فتحت الأطلس المدرسي على خارطة العالم الطبيعية واخترت القارة الأبعد توهُّماً مني بأنني كلما ابتعدت كلما اختفت أحزاني وتلاشت أوجاعي.
ولم أنتبه بأن الأحزان والآلام تسكن في الشقة الأجمل من بناية الروح ولا تغادرها أبداً.
طبعاً كان ذلك خطأً فادحاً ارتكبته لأنني لم أبحث بدقة مسألة تكاليف الدراسة، ونفقات المعيشة في تلك القارة البعيدة الموحشة، أو ربما قرأت المعلومات بشكل خاطئ، أو لعلني لم أفهم جيدا فارق العملة بين عملتنا وعملتهم.
ملأت حقيبتي بالملابس الرخيصة وركضت إلى المطار.
*****
حلقت طائرتي إلى استراليا، وحطت في مطار سيدني ذات مساء بعد تحليق طويل وممل تجاوز اثنتين وعشرين ساعة.
نزلت من الطائرة متعباً مرهقاً فصادفت مقعداً حديدياً أنيقاً في إحدى ساحات المطار؛ فألقيت جثتي عليه فكان ذلك الكرسي الحديدي؛ هو أول من احتضنني في تلك القارة الموحشة.
*****
كنت معتاداً ومازلت على شرب شاي الكرك الثقيل.
نمت يومين كاملين ثم استيقظت في الصباح الثالث أبحث عن حليب للشاي فلم أجد شيئاً؛ فسألت السيدة العجوز التي تورطت في السكن معها عن أقرب بقالة أو سوبر ماركت فوصفت لي المكان والذي يبعد مسافة كيلو ونصف الكيلو تقريبا عن المنزل.
خرجت من المنزل فشعرت بطعم الهواء النقي وهو يتسلل إلى أعماقي بكل شوق ولهفة، وتلذذتُ برائحة شمس مدينة سيدني الخفيفة الرحيمة، ورشفت جمال الطبيعة من حولي فأخذت أتلفت يميناً وشمالاً كأنني سجين قديم لم يرَ الضوء، وعاش جُلَّ حياته لا يعرف سوى لون القضبان، ورائحة الصراصير والجرذان!!.
*****
مشيت على سجيتي دون هدى أو تفكير بالوقت؛ فالوقت لا قيمة له مع تواجد اللذة، والزمن يتلاشى ويذوب حين تقتحمك النشوة.
بهرني جمال المكان، ونظافة الشوارع، وتنسيق المنازل، وهدوء الطرقات، واخضرار الأمكنة، ورائحة البرتقال الهاطلة من حدائق المنازل المحاذية للشارع .
فتذكرت وطني المسكين القاحل ذاك القابع المغروس في أقصى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية القاحلة!!.
*****
وصلت إلى البقالة أو ما يسمى بالسوبرماركت.
كانت هناك موسيقى خفيفة رقيقة تصدح في المكان فتنساب على جسدك كخرير ماءٍ جبلي تشحنك بالارتياح وتغرقك بالسكينة .
دلفت أتفقد كل ما حولي باحثاً عن أي نوع من أنواع حليب الشاي الثقيل أو الخفيف.
عندما يصادف أنك تلج إلى مكانٍ ما للمرة الأولى يبدأ تركيزك يتشتت في كل أجزاء المكان وتتبعثر نظراتك في الأرجاء، فتتهشم الغاية التي جئت من أجلها، وتفقد الهدف الذي تسعى إليه، وتتربع في ذهنك غاية وحيدة “التخبط والتسكع” والاستمتاع باللحظة وحرقها بسخاء ومتعة!!.
وخلال تسكعك تضيع نفسك مع الجزئيات الكثيرة التي تقتحم خيالك وتطمس على الغاية الحقيقية في وعيك فتنتقل مباشرة إلى مرحلة “اللاوعي واللا إدراك “.
*****
استمتعتُ كثيراً في البقالة؛ النظام والتناسق يمنحان الإنسان أريحية إجبارية بل مجرد تواجدك في مكان جميل ونظيف ومنظم؛ يبعث فيك الحياة، ويجدد رغبتك في الثبات والبقاء والمواصلة والاستمرار.
وفي غمرة تجوالي وانسجامي بين رفوف الأطعمة والمعلبات،
وبما أنني عربي صحراوي يمشي غالبا على غير هدى في هكذا أماكن إذا ما أذهله منظر ما أو شد انتباهه موقف ما؛ اصطدمت بفتاة استرالية فترنَّحَت وكادت تسقط أرضاً، ولكن لَطَفَ الله بها ومسَكْتُها قبل أن تسقط، ولكني تسببتُ في إسقاط السلة الصغيرة التي كانت تحملها، ولحسن الحظ لم يكن فيها سوى زجاجة جبن صغيرة.
شهقت الفتاة فكانت شهقتها صفعة لي للعودة إلى الأرض والالتصاق بالواقع.
أمسكت يديها معتذراً مانعاً إياها أن تلمس قطع الزجاج المتناثر؛ فقمت بسرعة بكنس ولملمة أشلاء الزجاجات المتناثرة ومسحت الجبن الملتصق بالأرض بمجموعة من المحارم الورقية والتي كنت دائماً أحملها في جيب سترتي.
*****
وأنا منهمك في تنظيف الأرضية لم ألحظ بأن الفتاة التي اصطدمتُ بها كانت تراقبني مندهشة من سرعتي في إزالة تلك الفوضى التي تسببت بها؛ فبمجرد ان رفعتُ رأسي إلاّ وهي تمنحني ابتسامة وردية غاية في الجمال والرقة؛ أصابتني بالنشوة ورشتني بالحياة.
أسكرتني ابتسامتها تماما، ومسحت من قلبي بعض ألم وحياء بدايات الموقف.
بعض الإبتسامات الجميلة تعتبر حقن منشطة؛ إنها إكسير لذيذ يزودنا بالقوة، ويدفعنا للنشاط والفرح والابتهاج.
حقيقة أنا لم أنتبه لجمال الفتاة وفتنتها لحظة الاصطدام، وإنما اكتشفت لاحقاً بأنني اصطدمت بملاكٍ بديعٍ فارِه الجمال، متدفقٍ بالفتنة، مكسوٍّ بالدلال .
فألهبني ضياء وجهها المضمَّخ بالبياض والحمرة، وأشعلني جسدها المكتنز بالتناسق والإبداع والأنوثة والفتنة.
*****
الأنثى الجميلة الفاتنة في كل الأزمان وفي كل العصور هي رمز مقدّس من رموز الحياة، وآلهة من آلهات الحب والمَنْح والعطاء!!.
شكرتني بكل أنوثتها المتدفقة من ينابيع السماء وصعقت حواسي درجة الإعياءِ والإغماء والخدر ولكني أتذكر جيدا بأنني
قلت لها : أعذريني سيدتي فأنا دائما هكذا أصطدم بالأشياء الجميلة والاجساد الفاتنة . !!
ثم ذهبت إلى وجهتها وهي راضية عني.
*****
وجدتُ ضالتي في ركن الحليب والمشروبات؛ فاشتريت ست علب من الحليب المُعلب قليل الدسم وتوجهتُ إلى طاولة المحاسبة، ومرة أخرى اصطدمت بذات الفتاة التي أسكرني ضياءها قبل لحظات.
فلم أكد أصحو من سكرتي الأولى إلاّ وأراها هذه المرة أمامي مباشرة.
وقفتُ خلفها؛ كانت تحمل في سلتها مجموعة معلبات بسيطة كان من ضمنها علبة الجبن الزجاجية.
كانت جميلة ورائعة، متناسقة القوام، متناغمة الأجزاء، متآلفة الزوايا دون ضمورات ولا نتوءات أو انسكابات مقرفة .
كانت منسجمة انسجاماً بدنياً رفيعاً، وتناسقاً بديعاً مع لباس متواضع أنيق يمنحها مزيداً من الجاذبية، ويسكب عليها زخات من البهاء والروعة.
قبل أن تدفع حسابها وجَّهْتُ ملاحظة للمحاسبة بأنني المسؤول عن علبة الجبن المكسورة؛ فالتفتت نحوي معترضة!!.
وحاولت أن تقنعني بأنها هي المسؤولة عن كسرها، ولكن بما أنني متخصص في علم الكلام والجدل العقيم استطعت إقناعها بسهولة وهزمتها بيسر بجملة واحدة ممّا أجبرها على الإستسلام للصمت حين سمعت منطقي.
قلت لها : سيدتي إنني أتلذذ وأشعر بسعادة غامرة كلما دفعت ثمن أخطائي؛ فرجاءً لا تحرميني من الإحساس بهذا الشعور اللذيذ!! ونطقتها بإنجليزية ركيكة عرجاء في تلك اللحظة.
لاذت بالصمت والسكون، وارتسمت على وجهها الجميل كل علامات الإستغراب والدهشة بهذا المنطق الذي يسكبه أمامها هذا الرجل الغريب الأطوار، والذي يتشدق أمامها بلغة إنجليزية هزيلة.
*****
دفعتُ حسابي بالإضافة إلى قيمة زجاجة الجبن المكسورة، وخرجت من البقالة؛ فوجدت الفتاة تنتظرني عند المخرج؛ بادرتني فوراً : شكراً جزيلاً على كل شيء .
قلت لها : لا داعي للشكر .. فهذا أدنى درجات الواجب الذي ينبغي فعله.
سألتني : كيف طريقك ..؟؟
قلت لها : بهذا الاتجاه .. وأشرت إلى اليسار..
قالت : إنه طريقي نفسه هل لديك مانع لو رافقتك قليلاً ؟
قلت لها : هذه أمنية سيدتي.
ابتسمت لي بحياء غانية قائلة : يبدو أنك غريب عن هذا المكان .!
قلت : نعم أنا عربي من جزيرة العرب.
طائرٌ مسافرٌ قادمٌ من ما وراء البحار؛ من هناك حيث الشمس والرمال والغبار الكثيف.
ضحكت من عبارتي، وعقَّبت : إذن أنت من المهاجرين العرب.
قلت : لا. لا؛ أنا مجرد طالب ماجستير.
قالت : ولماذا اتجهت إلى هذه القارة البعيدة ؟!.
قلت لها : لقد كان حلماً “اشتهيتُه” فقررت أن أتذوَّقه .
قالت : ألا تخشى أن تُفاجأ بمرارة الطعم؟!.
قلت لها : لا أكترث كثيراً بمرارة الطعم؛ فقد تشبعتُ من المرارات درجة الثمالة، ورشفتها درجة الإدمان لدرجة ان السُّكْر يتحول إلى ملح في فمي!!.
قالت : ولكنك صغير السن، ولا يبدو عليك خدوش التجارب وشقوق الألم!!.
قلت لها : المرارات لا شفقة فيها؛ إنها لا تعطف على صغير، ولا تحترم كبيراً، ولا تشفق على امرأة، ولا ترأف بعجوز!!.
صمتت، ولم تحر جواباً!!..
فسألتها كهروب من موضوع المرارات الذي يبدو بأنه أقلقها أو ذكرها بشيء ما :
لا يبدو على ملامحك أيّة نكهة استرالية ..!!
قالت : نعم .. إنك دقيق الملاحظة؛ والدتي من إيران، ووالدي هولندي استرالي!!.
قلت لها : إذن كان إحساسي في محله بالضبط .
قالت : كيف ؟!.
قلت لها : هذا الجمال المتطاير الباذج؛ ما هو إلاّ مزيج من دماء الشرق وجينات الغرب؛ إنه رحيق سلالات بيضاء متباعدة .
شكرتني على كلماتي، وحاولت تغيير مسار الجمال إلى مسار آخر أخف وطأة من غراميات الصدفة!!.
فسألتني : ماذا تدرس ؟.
قلت لها : علم النفس .. فقالت بنبرة تعجُّيبة :
ولماذا “علم النفس” ؟؟!! إنه علم معقد ..
قلت لها : إنني أحب التعقيد وأهوى الصعوبات.
الإنسان المعقد هو غايتي.
الإنسان المعقد هو الإنسان الحقيقي الصريح؛ هو النسخة الأصلية من الإنسان الأول الذي صُدٍم بسقوطه القسري على الأرض، وتكليفه بما لا يطيق وما لا يعي .. فتعقدت أحلامه وتشابكت آماله!!.
التعقيد خصلة بشرية خالصة، وشفرة سماوية غرستها السماء في الروح البشرية، وسقتها بمختلف المواجع والمحن والآلام والجروح!!.
قالت لي : جميل جداً؛ أتمنى لك كل النجاح والمثابرة.
شكرتها بألق وبهجة.
وصلنا إلى مفترق طريق.
وقالت : هنا سيختلف طريقنا؛ لأنني أسكن في الضاحية الغربية؛ ما رأيك لو ترافقني لتتعرف على أسرتي وتتناول معنا كأساً من الشاي الاسترالي اللذيذ.
قلت لها : شكراً جزيلاً.
هذا أكثر مما حلمت وتمنيت؛ هناك من ينتظرني على عجل!!.
*****
طبعا لا أحد ينتظرني!!.
كنت فقط أريد الهروب من جمالها والابتعاد عن ضيائها.
فقلبي لا يحتمل كل ذلك الضياء، وروحي تضطرب وتموج حين تصطدم بهذا الصنف من الجمال.
*****
المذهل في عالم الذاكرة الخصبة والخيال المجنون؛ أن الفتاة الإيرانية الهولندية مازالت تشرق فجأة بشحمها ولحمها أمامي!!..
كلما حضرت “زجاجة جبن” على مائدتي!!..













شكرا على هذا السرد الجميل الغير ممل..شهادتي فيك مجروحة يا ابا يزيد
أسلوب رائع في الكتابة استاذنا العزيز عبدالله/ كلمات منتقاه بحرص والعفوية الكتابية الجميلة زادته جمالا وميزت المقال وهو مما يجعل المكتوب أكثر قربا إلى القلوب، فالنابع من القلب أكثر تأثيرا .. بورك قلمك .
شكرا أخي بدر على هذه السطور الرقيقة وشكرا على هذا المرور الخفيف الأنيق الرقيق.
بورك قلبك
شكراً؛ وعجبتني التعليقات والرسم في العيارات كالاسترسال في الابتسامة ووقعها على النفس وضيائها..
ما لفت انتباهي؛ دماثة خلقك والغربة وأنت ترافق الإيرانية الأم والهولندية الأب وربما الأسترالية الجنسية ،.
كنت مرفقاً لم أثناء القراءة وأغبطك على الموقف والشعور والصدفة..