
إسرائيل والتنصت على مكالماتنا..!!
زاهر بن حارث المحروقي
كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي
علق أحد قراء مقالي في هذه الجريدة تحت عنوان «فيسبوك وإخوته يتجسسون علينا» بأنّ قال: «يبدو أنّ توجهاتك أصبحت شبابية؛ لتركيزك على مواضيع التقنية الحديثة». والواقع لا يمكن أن ننكر أنّ هذه الوسائل باتت «شرًا لا بد منه» كما علق غيره؛ فنحن نعتمد عليها يوميًّا في أعمالنا وتواصلنا، وهي بدورها تخزن فيها كلَّ ما هو خاص وعام. لذا فإن رأيي أنّ التركيز عليها واجب؛ لتوعية الجيل الجديد الذي يعتمد عليها في كلِّ شيء بخطورتها رغم إيجابياتها الكثيرة.
مؤخرّا كثر الحديث عن أنّ هذه الوسائل كيانات تراقبنا وتخترقنا وتوظف بياناتنا. تلك حقيقة باتت معلومة وليست سرية، لكن المشكلة تكمن فينا نحن؛ إذ إننا أمة مستهلكة لا ننتج التقنية، ولا نتحكم فيها، ولا نملك أدوات الحماية الذاتية. نستهلك ما يُعرض علينا، ونُسلم بياناتنا طواعية، ونُفاجأ فيما بعد أنها تُستخدم ضدنا، وكلُّ ذلك جعل مراقبتنا واختراقنا سهلًا. وإذا كان أمر المراقبة والاختراق يقتصر فقط على الأفراد العاديين فالأمر -رغم كارثيته- إلا أنه يبقى سهلًا، ولكن كما هو ظاهر فإنّ أمر الاختراق تخطى هؤلاء الأفراد إلى مواقع مهمة في الحكومات، خاصةً أنّ كثيرًا من دولنا تعتمد على الوافدين في مواقع كهذه، ما يؤكد أنّ هذه المنصات ستظل تسيطر علينا، وتتحكم فينا.
تحدثتُ في مقال سابق عن تجسس مواقع التواصل الاجتماعي على المستخدمين، وكيف تحولت المنصات الرقمية إلى أدوات لجمع البيانات الشخصية تحت غطاء الخدمات المجانية. ويبدو أنّ كلَّ يوم يحمل لنا كشفًا جديدًا في هذا الإطار، ومن ذلك ما قرأته مؤخرًا في تحقيق نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية بالتعاون مع مجلة «+972»، وموقع «لوكال كول» يكشف عن تعاون سري بين وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «8200»، وشركة «مايكروسوفت»؛ حيث استُخدمت منصة الحوسبة السحابية «Azure» لتخزين وتحليل ملايين المكالمات الهاتفية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
حقيقةً وَجّه التقريرُ صفعة لكلِّ من يعتقد أنّ التكنولوجيا يمكن أن تكون محايدة؛ فهو يذكر أنّ تعاون الكيان الإسرائيلي و«مايكروسوفت» بدأ فعليًا في أواخر عام 2021 حين التقى يوسي سارييل قائد وحدة «8200» بساتيا ناديلا الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت في مقر الشركة في أمريكا، فخلال الاجتماع «حصل سارييل على دعم مباشر لإنشاء منطقة سحابية مخصصة ومعزولة داخل «Azure» تُستخدم لتخزين محتوى المكالمات الهاتفية اليومية للفلسطينيين» كما يقول التحقيق الذي تَشَارَك في كتابته الصحفيان هاري ديفيز، ويوفال أبراهام، ونُشر بتاريخ 7 أغسطس 2025، وترجمته لموقع «الميادين» بتول دياب.
وفعلًا بحلول عام 2022 كانت الوحدة قد بدأت فعليًا في استخدام هذه البنية الأساسية لتسجيل وتحليل ما يصل إلى ملايين من المكالمات. ورغم أنّ مايكروسوفت قد نفت علمها بطبيعة البيانات المخزنة، وأكدت أنّ مراجعتها لم تجد دليلًا على استخدام تقنياتها لاستهداف المدنيين – وهو ما تنفيه كلُّ مواقع التواصل -، إلا أنّ هذا النفي سقط أمام شهادات المصادر الاستخبارية التي تؤكد أنّ هذه البيانات استُخدمت لتحديد أهداف القصف، ولابتزاز المدنيين، بل لتبرير قتلهم بعد وقوعه.
وحسب التقرير؛ فإنّ «نحو 11,500 تيرابايت من البيانات العسكرية الإسرائيلية محفوظة في خوادم مايكروسوفت في هولندا وإيرلندا، وهي كمية تعادل أكثر من 200 مليون ساعة من التسجيلات الصوتية»! لم يقتصر الأمر على غزة وحدها، بل يركّز أساسًا على الضفة الغربية؛ حيث يعيش نحو ثلاثة ملايين فلسطيني تحت الاحتلال، أي أنّ هناك مراقبة جماعية تشمل حتى المكالمات الشخصية اليومية، بما يعني أنّ الفلسطينيين مكشوفون لا يملكون مساحة من الحرية في كلِّ أمورهم الحياتية حتى الحياة الخاصة، لا في بيوتهم، ولا في هواتفهم، ولا حتى في أفكارهم؛ فكلُّ شيء قابل للتسجيل والتحليل، وحتى الاستهداف. ولكن الأخطر من ذلك أنّ هذه «المنصة السحابية» لم تُستخدم فقط لجمع المعلومات، بل – بحسب مصادر من الوحدة «8200» – أسهمت في تسهيل غارات جوية قاتلة، وفي بعض الحالات استُخدمت لتحديد أهداف في مناطق مكتظة بالسكان، ما أدى إلى مقتل الآلاف، بينهم أطفال.
هذا الأمر يقودنا إلى طرح سؤال مهم : هل الأمر يقتصر على الفلسطينيين وحدهم؟!.
للإجابة عن هذا السؤال فإننا نقول : «لا» بأعلى أصواتنا؛ فالفلسطينيون في غزة يعيشون تحت ظلِّ حرب شرسة ضدهم؛ تستهدف مسحهم من الوجود، وأهل الضفة يعيشون تحت احتلال يحصي عليها أنفاسهم.
وإذا كان التقرير قد ركّز على الفلسطينيين فقط فإنّ المؤكد أنه لا منجى لأيِّ دولة عربية من هذا الاختراق، خاصةً أنّ هذه الدول تعيش أوهام «المدنية الحديثة» على حساب الأمن العاجل والآجل، وهي مستهلكة ومستوردة للتكنولوجيا، ومن يعمل في نظام الحواسيب وبرمجتها في بعض دولنا العربية أغلبُهم أجانب ومن دول ثبت أنها تتعاون مع الكيان الإسرائيلي تعاونًا مباشرًا، ما يزيد من المشكلة.
لا يمكن أن نتجاهل كيف تحولت التكنولوجيا الحديثة إلى أداة في تنفيذ عمليات اغتيال دقيقة استهدفت شخصيات قيادية فلسطينية ولبنانية وإيرانية خلال العقدين الأخيرين. وربما أبرز الأمثلة في ذلك اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده عام 2020 في عملية أقرب إلى أفلام الخيال بأن استخدمت فيها إسرائيل رشاشًا آليًّا مزوّدًا بكاميرات ذكية، وتقنيات التعقب والتصويب عن بُعد دون وجود أيِّ عنصر بشري في موقع التنفيذ، وهي العملية التي وُصفت بأنها «اغتيال عبر الأقمار الصناعية»، وكشفت عن مستوى غير مسبوق من توظيف الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية في التصفية الجسدية.
لا غبار على أنّ الاستغلال العسكري الإسرائيلي للتكنولوجيا من أجل القتل والتصفية الجسدية يطرح تساؤلات منها: ماذا نحن فاعلون؟ وما خططنا لمواجهة ذلك الخطر؟! وهل تتحمل شركات التقنية مسؤولية غير مباشرة حين تُستخدم منتجاتها في عمليات التصفية تلك؟
وإذا كنتُ قد تساءلت: ماذا نحن فاعلون؟ فإنّ السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح هو: هل نملك خيارًا آخر في ظلِّ هذا الاعتماد شبه الكامل على المنصات التقنية الغربية في غياب أيِّ بدائل عربية أو محلية مستقلة؟ يبدو أنّ الإجابة المؤلمة هي لا. وتلك الإجابة تعني أنّ علينا أن نبدأ في تطوير تقنياتنا، وتأهيل أبناء البلد ليكونوا هم المسؤولين عن مواقع التقنية هذه، فالأمر أصبح خطيرًا بما يهدد الأمن والسلم؛ إذ لا يخفى ما للاختراق من خطورة على حاضر ومستقبل الأوطان.