أصــداء منوعةقصص ، روايات

رواية : وادي الرمال .. الحلقة 26..

حـمـد الـنـاصـري

 

رواية : وادي الرمال .. الحلقة 26..

 

انفرد الرجل الأشيب الذي يتكئ على عصى كبيرة وانزوى بالرجال الذين لحقوا به، إلى ركن قصي وتخلّى عن جموع المختلفين معه، فلا يراهم أحدا.. وقال لنفر من أصحابه سِراً :

ـ الصمت لا يَزيدنا إلا رهقاً، والغموض قد فضح كثير من رجالنا، والسكوت عن الحق باطل، وشُعوري بالصَمت يأكلني في أعماقي، لا أستطيع السكوت عن الحق وأرى غيري من الناس يتعذّب ويزداد رهقاً، وكلما ازدادت الريبة في الرجال كلما ازداد طحن خصومهم ولم يجد المتأمّل فيهما، إلاّ أنْ يزداد عجباً.

قال رجل في بياض عينيه حُمرة ، وكان متكئاً فاعتدل في جلسته، وقد أكد على قول “حامد” ذي اللحية الشائبة ، وقال: ـ لا ريب ، أنّ ذي العينين الغائرتين قد سرق مزرعة القريتين؟.

قال “حامد” مُتوكأ على عصاً غليظة:

ـ البدء بتأمين احتياطاتنا تُفرضه الأوضاع بالوادي، وإبلاغ الجد الكبير بخبر اعتزالنا واجب، واعلامه بالأسباب، فقد كشفنا أمر سرقة مزرعة القريتين جهرا، فكان هروبنا من ذي العينين الغائرتين، فيه ما نُخفيه عن سارق مزرعة اليتيمين، وإننا نحيطكم علماً بأننا نتخذ من مكاننا ، قيادة أمرنا وسنكوّن قيادة تتبعنا ، وسنشرع بإعادة الحقّ إلى نصابه ، فمزرعة القريتين لليتيمين ولا يُمكن مقايضتها بأفواج الغرباء في ارض وادي الرمال، وأنّ عودة الحدود المشتركة بين قرية الوادي وقرية مجن أمر لا بُد منه لضمان استمرارية الاستقرار والتعايش بين مجتمعات وادي الرمال.

قال الرجل الذي في عينيه بياض:

ـ إني أرى ما لا تَرون؟.

قاطعه رجل عُرف بأنه مهووس بحبّ التراث :

ـ ماذا ترى.؟ قُل ولا تكتم شيئاً.

ـ أرى.. أن الناس قد غُلبوا على أمرهم، وأضحى الواحد فيهم، صغيراً او كبيراً لا يُفرّق بين الخطأ وبين الصحيح ولا بين مُتشابهات الامور ومُشتبهاتها.؛ انظر كيف نكص أبو العينين الغائرتين عن الحق، وقد تراءتْ المسألة هيّنة وما هيَ بهيّنة ولا سَهلة ولا طيّعة ابداً .؛ ذلك الرجل الذي نكص على عقبيه وارتدّ مُتقهقراً عن الحق.؛ فذلك النكوص رجوعاً عمّا حدّثنا به من عزم.

قال الرجل الذي عُرف بحبّ التراث:

ـ لا أقول كقولك أبدا.. فالكلام مأخوذ بالتشابهات ، فالكلام الجميل غير مأخوذ من النور حتى وإن اختلف مفهومه ، تبقى دلالته وجه من وجوه التشابه ، وتكون تشابهاته كنور من قول جميل.

قال الرجل الذي في عينيه بياض:

ـ يا رجل، خفّف علينا فلسفتك.. فلا أحد يَفهم تشابهاتك ولا حتى كلماتك الجميلة، فأنْ تُحررّ العقل خير من فلسفة تشابهت على وجهٍ أنت مأخوذ به.؛ انا اختلف معك في الأفكار والآراء التي هي من أهم الوسائل للوصول إلى العقول.. واختلافنا طبيعي جداً.. والجد الكبير، له تأريخ عميق في فلسفة التراث، فقال في كتابه التكوين نص 13 “لا يزال الناس مختلفين حتى ولو جُمعوا على قلب رجل واحد، ولذلك خُلقوا ليكونوا مُختلفين بينهم”.

قال الرجل المأخوذ بحبّ التراث وقد عُرف به:

ـ إنّ صِدام التقاليد وارتباطها بالمكان، أمر بالغ الأهمية، إنها تُمثّل هوية تكوينية.؛ كحال الفنون التي لها أثر عميق في وجدان الانسان. فأيّما هويّة تميّزت بأثرها وكانتْ خصبة بموروثها وتكللّت بتأثير ثقافتها.؛ حازت على رضا السائرين وإعجاب اللاحقين.؛ أمّا فيما يخص الجد الكبير، والنص الذي اوضحته من كتاب الجد الكبير ، فالناس يختلفون في أفكارهم وآرائهم وفي نشأة عقولهم ، ولو جمعت الامزجة في تكوين واحد ، فالبشر هنا يكونون بلا استقلالية في الرأي والفكر ولم تتفرّد شخصياتهم بطابع يختلف عن الآخر ولا تتميّز عقولهم عن بعض.. إذن نقول أنّ الاختلاف في البشر طبائع تكوينية ، والإصرار على البقاء ، من تأثير العقل وكذا الحال في الاختلاف يعود تأثيره من نشأة العقل وطُغيانه على سائر موجودات الجسد.

سكت خفيفة ثم أردف:

ـ اما حول ما يتعلق باسترشاد وتوجيه سيدي الجد الكبير ، فمن الضروري بمكان أنْ نُبلغ الجد الكبير عن  ضرر رجال القرية الناشئة على الوادي وبالأخص قرية مجن الكبرى ، وندعوهُ لدعم جذور التكوين ، فقد قرأنا في كتابه ، نص9  “تاريخ قرية الوادي عَتِيد وصَلب وعميق الجذور ، ذلك العُمق شغل كثير من رجال القريتين” وفي موضع آخر من نص 9 ، قال : “إنّ قرية مجن ، ستشهد موت التاريخ ولكنها ستنهض بمفهوم جديد بالوادي ذلك المفهوم سيتشكّل مُفرّقاً على ضفاف الوادي ، ولا يُمكن بحال الكفّ عن المُعتقدات ، فالناس في الوادي كالتاريخ يستنهض الرجال ولكنه لا يعود”. وفي نص10 من نفس كتاب الجد الكبير “الجوهر الحقيقي لحياة الوادي والرّمال، كالشمس والقمر ، مكانتهما رفيعة عالية، ولكل منهما جوهر وشأن ، فالشمس تُضيئ النهار وتنزع ما بقيَ من سواد الليل والقمر يُضيء بفعل بنور النهار الاجمل الذي يَبعث الامل بالديمومة والنشاط.”.

قال “أزهر” الحفيد الأقرب شَبهاً إلى الجد الكبير بالنطق وبحركة الجسد:

ـ الأشرار لا يكفّون عن شرورهم، وذلك ما يُغضب سيدي الجد الكبير، إنهم لا يمتنعون عن سرقة الموروث، فمن الخطأ أنْ يمرّ ذلك بدون عِقاب.؛ إني أرى أنّ إثارة القضية وجعلها أمام أنظار الجد الكبير هو الرأي الصائب، خوفاً أنْ تتكرر، وإني لأخشى من أؤلئك الذي يُجعجعون بالخير والفضيلة وهم لا يكفون عن الفساد والرذيلة.. فالسرقة، وأخذ مال الغير بالقوة ونشر الفوضى، كل ذلك من ضُروب نزغ الشيطنة.

قال وليد مكملاً حديث أزهر:

ـ كلامك عين الصواب، فالسرقة جُرم بغيض، وأنا ارجوا من ـ جدي الكبير ـ تشديد عُقوبتها، لأنها تدلّ على فساد كبير وضررها أكبر إذا بُسِطت في مجتمع وادي الرمال.

وأمّا ما أكدهُ الشيخ حامد، بأنّ مَزرعة القريتين، هي موروث الوادي أو هي إرث لقرية مجن التاريخية، فالأمر يبدو مُتداخلاً نظراً لوقوع المزرعة في رمال القريتين ، ويومئذ كانت الرمال تحكمها حركة التنقل والراحلين وتلك قضية كبرى يَنبغي السكوت عنها ويجب أنْ تُحلّ بين رجال القرى وبالأخص القريتين، وأمّا عن الغُرباء فهم لم يأتوا إلاّ لبغيضة ولأجل أنْ يتفرّق الناس لفائدتهم ولكيْ يكون الشقاق بين المجتمعات هو السبب الرئيسي لتدخلهم في مجتمع الوادي ولضَمان اسْتمرارية بقائهم في وادي الرمال.

ونحن في هذا المجتمع، نحث على التمسّك بالقيم والأخلاق والفضيلة ، وأمّا تُرّهات الحاقدين ودناءة الفاسدين وسيئات السارقين، لا تُمثّل موروث رجال الوادي ولا مجتمع الرمال.

وحول ما تحدّث عنه، بعض الرجال عن الرجل المُسمى ” عُون ” بأنه هو أوّل من سهّل أمر السرقة واعتبرها حق مفروض، فقد فَعلها عن عَمْد من نفسه الامّارة بالسوء وبدافع التمرّد.؛ حيث قال قولة مشهورة : ” نُنكر الحقيقة لأنها لا تُعنينا وحين نَبلغ مُرادنا نَعْمُد إلى الواقع السَهل.؛” فتلك الفلسفة ضارّة بعلاقات الناس ببعضهم وكلام يفتقر إلى المسؤولية .؛ فالمسؤولية الحقيقية هي ما ينفع الناس وما يمكث في حيواتهم ويمسّ معيشتهم.؛ وأرى أنّ أخي ” أزهر” مُحقّ في كلامه، إذ أنه يَعُدّهُ من ضروب نزغ الشيطنة.؛ فقد أنكر “عُون” مسؤوليته تّجاه الحقّ والفضيلة وغلب عليه النُكران والتمرّد للسيرة البعيدة.

علا صوت رجل من مجموعة الـ ستين نفر الذين لحقو بـ “حامد”ـ وأشار بسبابته ـ إلى المخبأ العميق الذي اتخذوه وجماعته مَلجأ عن أعين أعدائهم وقال:

ـ انظروا، كان ذلك الفِعْل، فِعْل المُضطر لا وسيلة العَاجز، وما اتخذناه من وسيلة وتدابير صارمة، كان ذلك لفائدتنا وهو ما ينفع جماعتنا، خوفا أن يُكتشف أمرنا.

أحسّ وليد، أنّ الرجل يُريد الندّية أنْ يشقّ عصى الجماعة ويفرّق بينهم وإضعاف قيادته بين الناس، فقال بهدوء:

ـ كنا نتحدث عن أبو العينين الغائرتين وسُوء نيته اتجاه قرى وادي الرمال، وما انطوتْ عليه نيته، من خِداع مُتعمّد والغش، واشعال الفتنة بين القرى، والاتفاق مع الغرباء.؛ ولم نأتي بحديث مثله عمّا اضطركم إلى هجرة الخوف، فتلك مأخوذة من حُكم المُضطر.

قال “حامد” في ضيق:

ـ ليس بغريب على ذلك الرجل الأفعال المُشينة، فتلك الأفعال القبيحة من قرائن اخلاقه وتعامله، كما أنّ التمرّد ليس بكبير عليه، إنه من نسل “عُون” الذي تمرّد على أبيه ، وقتله.

قال وليد وهو يشد نظره إلى حامد:

ـ تحدثتُ وأخي “أزهر” وكان الجمع الذي اتفقنا عليه، أنّ ذلك الفِعْل مُشين ومن فِعْل الشيطنة.

فقال حامد كالمقهور:

ـ أنتم تتحدثون عن الإنكار والتنكّر كسيرتان بعيدتان، وأنا أضفت إلى حديثكم، بأنّ السيرتان البعيدتان، إنكاراً وتنكّراً، تحققت على يد” عُون” الذي ظنّ ومن معه، بأنّ لهم الغلبة بأفعالهم وبسوء أخلاقهم.

قال الرجل الذ عُرف بهوس التراث:

ـ التاريخ يا سيدي سيرة بعيدة، يكتبها المُنتصر ويُنصفها العادل الامين.؛ نحن جميعاً مسؤولين عن التاريخ وعن عدالته، وإنْ كانت بعض المَواقف اخذت من غبار ذلك الزمن، رُبما ، من اجل بقاء حقيقة أو كشف نيّة ما.؛ ولكنْ ظلّت استنكارات سرقة التراث تُراوح مكانها ، فقد تمّ فصل التاريخ عن التراث بعقلية جافة ، وأيّ موروث هو مَكسب تاريخي ، وذلك المكسب هو الوجه العميق للتراث.؛ ونقول بأنه يتوجّب على العقلية التاريخية أنْ تتعمّق أكثر في فلسفية المرجعيات ، فكلّ التنظيرات الفكرية تُراث على مرّ الزمن ثم ما تلبث أنْ تتحوّل إلى مرجعية فكرية.؛ حتى ولو تحوّل المكسب التاريخي إلى مُكتسب ، وابدع فيه الرجال بنقاوة ، لا يُمكن أنْ يُعَد التراث كسلعة “بيع وشراء”  وحمايته واجبة تُفرضها القِيَم المُستوحاة من فِعْل الرجال الأنقياء ، ونقرأ في كتاب الجد الاكبر ” منْ أضرّ غيره اكتسب ضُرّه ومن عَمِل خيراً لقيَ مِثْله”.

قال وليد مصدقاً كلام الرجل المهووس بجمع التراث ومُثنياً عليه:

ـ كان حديثك عن الموروث فيه مُتعة.. وأنا ازيد على قولك، أنّ الحمق يُصيب الإنسان بالخلل والاوهام.

توقّف بغتة ثم نظر إلى الجمع الذين تحلقوا حوله، وقال:

ـ أيها الجمع المبارك، اسألكم بحق السماء، ما الذي تتوقعون حدوثه إنْ اسْتمرّ الوادي على هذا المبدأ؟.

قال الشاب أزهر:

ـ خلخلة وزيف ؟ وتدمير لقرى الوادي وضياع الموروث، وكما يبدو لي، إنْ لم يَقم الناس بالمحافظة على بيئتهم، فسيحدث تغييراً على اليابسة او اختلال في الوادي.

قال حامد بلطف، والتفت إلى الرجل الذي عرف بهوس جمع التراث:

ـ ما الذي تَعنيه يا سيّد “عبدالله” بعبارة “المحافظة على التراث” فهل تقصد بتكوين حماية، او وثيقة يعتمدها الجد الكبير.

وفي هذه اللحظة، صوّب نظره ناحية وليد ، وقال:

ـ سيدي وليد تحدثت، قبل قليل عن الانكار والجحود، ولم تزل قضية الوادي تتأرجح بين شِدة الإنْكار وخلخلة الجحود.؛ فلماذا لم تُوجه رسالتك الإنسانية، حول قضية سرقة التاريخ وجحود بيئة المكان. وكما يبدو لي، بأنّ الحديث عن حماية التاريخ، التي أشار إليها، السيد عبدالله، هي بحقّ عُمق مكين، فحماية التراث حماية لعمق المكان.

ثم التفت إلى “أزهر” وابتسم:

ـ كل ما ذكرته.. كان جميلا جداً، وأزهرتْ مُفرداته بالذكر الاجمل لسيدي جدي الاكبر، وأقول، نعم، فـ”الفِعْل المُشين يَنمّ عن جهل بائس”.

قال رجل ذي عينين عسليتين تعود جذوره التاريخية إلى القرية المكينة:

ـ أنا من حيث عرفتم، إبن الوادي، والشيخ عبدالله يعرفني بأني لا أجامل أحداً.. فرجال قرية الوادي وإلى جانبهم رجال القرية الساحلية أقوياء بتراثهم أحياء بتاريخهم الضارب في عُمق الوادي، هم رجال ترسّخت مبادئهم في الحياة ليسوا كالذين تاهوا عن حقيقة أصْلهم في وادي الرّمال وأمّا القريتين المُتجاورتين العتيقة والمَكينة، وإلى جانبهما قرية الوادي فتاريخهم مُشترك، وجذورهم مرجعية واحدة.. اسوق ذلك وفق ما قرأته في كتاب الكون الأول وصحيفة المجد، للجد الأكبر: “أنّ القريتين عميقتا التاريخ وعميقتان في جذور الرمال، وكانتا امْتداداً لبعضهما، وقد انتصرت قرية الوادي في الزّمن الغابِر وهي أوّل من بدأت بتكوين عُمق محبّة بين القريتين، وكأنّ قرية الوادي قد توسّطت بينهما كحبل سري يربط القريتين العميقتين ، فتشابهت السِمات وظهرتْ تشابهات في ملامح الوجوه وتقاربتْ الأصول وتداخلت المنافع.” وإذا أسْعفتني الذاكرة بحصر ما قرأت في نصوص الاسفار الأولى، واعتذر إنْ غلبني الظن ، فالظن الحسَن فيه خير “ أنّ بثلاثتهم ـ القريتين والوادي ـ  اعترتها بيئة مكانية  لا حدود لها ومع مرور الوقت ظهرتْ تشابهات بين الاشخاص بفعل التزاوج والمُصاهرة ونشئت لغة التقارب ويُقال : إنها اختلطت بلغات قديمة وحديثة وتشكلّت بفعل ذلك التقارب جذور العلاقة المتينة، ومنذ غابر الازمان تغيّرت لغة التّخاطب وتبَدّلت الأحرف وتحرّكت اللغة المشتركة، وتباينتْ مرادفاتها، وأحدثت تغييراً في ظواهرها كالإقلاب والإبْدال في لُغة القرية العتيقة ، بينما تجد في لُغة القرية المَكينة او القريتين معاً، إحداثيات كاشْتقاق وإقْلاب وإبْدال في ظواهر اللُّغة السّائرة عكس قرية مَجن وسواحلها فقد عُرفت لغتها بكثرة الشنشنة في الحروف والكشكشة في الكلمات والبعض الآخر يُكسكس فيهما معاً ، وكما يبدو أنّ تنوع مخارج الصوت ، حتى في القرية الواحدة ، ويُقال أنها وصلت إلى مضارب البَدو والرّاحلين وقطاع الطرق واختلطتْ اجناس واعراق بعضها في بعض ، نظراً للأسباب التي تعرفونها ووقوع بعض قرى مجنْ على البحر وكما يُعرف تاريخياً ، عند البعض ، أنّ انحدارات وهضاب استوتْ وتكوّنت كانتفاخات على ساحلها،  عُرفت كحدود باسم قرى ساحل مجن ، ومع مُرور الزمن حدث تغييرات جذرية في السلوكيات وفي كلّ إدراكات أنماط المعيشة في وادي الرمال ، إلى درجة أنّك قد تُلاحظ فوارق اختلافات النُطق عند الأكثريّة الغالبة بين النساء والرجال ، وأصبحت لكلّ قرية رطانة ، وظهور مَلحوظ في الكشكشة والشنشنة وتكاد لا تَعرف إلى أيّ مرجعية تَنتمي تلك اللغة وحركاتها ,,؛ فقد اخبرني احد اكبر رجال مجن التاريخية ، أنّ لغة الشنشنة تغيّرت وتمازجت في كثير من اللهجات المحلية وتكوّنت او كُوّنتْ لها خاصيّة ورطانة عُرفت بها.؛ سكت قليلاً ، وسحب نفساً ثم زفره .. اتذكّر فلسفة تاريخية قالها أحد الرجال وكان من بين المُجتمعين هو الشيخ عبدالله هذا، ومدّ أُصْبعه إليه، وحين سأل الرجل سيدي الجد الكبير: لماذا الاهتمام بالتاريخ.؟ فأجاب الجد الكبير :

ـ التاريخ أمانة في أعناقنا وسَنُسْأل عنه يومئذ، أمام الجد الاكبر..؛ فالتّاريخ جُزء من عزم الرجال.

سكت ولم يبزم بعدها بحرف.

حرّك وليد رأسه ايجاباً وقد زمّ بوزه واطبقهما، وقال:

ـ جدي الكبير فاتحة القرية العتيقة وبابُها المكين ومَسار تُراثها وعزّ شموخ الرجال.؛ وقرية الوادي ، لا تختلف عن القريتين  اللتين جحدا رجالهما إكرام السَماء وفضل الرمال ونِعَم الامكنة فطغوا فيها وبَغوا في الدّيار ، وكان وعداً مغضوباً عليهم.؛ ولا تزال الاحداث تترى وتتوالى على قرى وادي الرمال ولا ريب أنّ الواقع يشهد انحدارات في الاخلاق ويُلاحظ ظهور كثير منها.؛ ولن أزيد عمّا قاله جدي الكبير : أنّ واقعنا سيشهد في قادم الزمن تنازع كبير واختلاف بين رجال قرى وادي الرمال ناهيك عن القريتين اللتين انشطرتا عن بعضهما وانقسمتا بفعل الرجال.؛ وإنْ لم نقوم بواجبنا تجاه الوادي وباهتمام في سائر الرمال ،فستظهر في قادم الأيام  قوة ،تأخذنا إلى خارج عُمق المكانة التاريخية.؛ ومن قول جدي الكبير أنقل لكم ، الشعور الإيجابي ، والالتفاتة الحكيمة بالانتماء إلى رمال الوادي المكين ” أنّ على قرية الوادي توسيع رقعة امتدادها إلى المائيين الكبيرين ، وتكوين قوة أكبر في يابسة وادي الرمال.

قال الشيخ حامد، زعيم مجموعة الستين الذين اعتزلوا الرجال:

ـ لا علينا من ذلك كله ، علينا أنْ ندعم تغيير أفكار الناس وارشادهم وتحذريهم من مغبة الفرقة والشتات والانقسام وسأعرض على رجالي الستين، بأنْ يَثبتوا على ما هم عليه ، وعلى كل واحد منهم مسؤولية في قادم ايامنا وسنعتدّ بها على أطراف اليابسة ، وسأكون أنا الرشيد عليهم.

قال وليد، بنفس غير راضية:

ـ هذا عمل غير جيّد، وفيه جدل كبير وسَيُحدث تنازع مُخيف ، يُرعب رجال وادي الرمال.

قال الشيخ حامد:

ـ وادي الرمال وطن كبير لنا ، ولا نحتاج إلى أفكار فلسفية كي تُخرجنا من مَغبة الاحداث التاريخية، فمنذ الانشطار الأول والتكوين، لم نجد شيئاً قدّمته لنا الاحداث التاريخية غير مساوي اخلاقية وشِقاق بين الرجال وتنازع على السُلطة، وهذه افكاري أقصّها عليكم وإن اختلفتم ، فأنتم المسؤولين عن اختلافكم  ولعلكم تَعُون ما أقول، فأفكاري التي أبُثّها عليكم ، هي نتاج رحلة اسفاري البعيدة وقراءاتي لـ رسالة الكون الأوّل، وإني مُعِد للرسالة جزء غير كبير، من احداث واقعة الرمال، بل أني وجدتُ كل الرسالات الكونية، عبارة عن رسالات فلسفية جدلية ، صُيّرتْ بين الجد الأول وزوجه، وحوّلتهما من صُورة جميلة إلى صُورة نمطية، كانت مفتاحاً للشقاق وما صيّرته إليه.؛ ولستُ ـ هناـ أتعمّد نقل صُورة الاطوار التي كانت عليها أحوال الحياة ولا نقل الصورة النمطية التي انتهتْ إليه؛ فالحياة أطوار تتجدّد وانماطها تتحدّث بلا توقف، ومما قرأته في رسالة الكون الأول، تُنبئني، بأنّ كرامات السماء تتواتر للبشرية ولا تُجمع، وعلى منوالها قام جدل في زمنها الغابر، بين أحداث تعدّت على حقّ حياة الناس في وادي الرمال، وبين قول، ظنّها من كرامات السماء وليس بفعل الرجال في الرمال، وكان الجدلين قد اتسعتا وتشقّقت رقعتيهما، ولم يُصلح احد ما انفتقَ ولم يأتي مُصلح لرتق ذلك الاختلاف ولكنا نأخذ منهما عِبْرة للأحداث، لا كحياة للفضيلة، ولا لكرامة الانسان ولا لأخلاق بشرية ؟ بل نعدّها ونَعتبرها استلهام لحياة بشرية قامتْ على خيارات أتاحتها حياة الناس ومعيشتهم؟.

قال رجل ذو عينين عسليتين لتوه لحق بوليد وأخيه ازهر مع ثلة من رجال:

ـ أأنت أصدق أم الجد الأول.؟ كفاكم ظُلماً.؛ ألا تتعظون.؟ كفانا صراع بين عقولنا وقلوبنا.. كُفّوا عن الخسّة والخباثة في الوادي، ألنْ يكفيكم الفساد في الرمال وسرقة أموال اليتيمين.؟ ألن يكفيكم افساد علاقاتنا التاريخية مع بقية قرى وادي الرمال.؟ ما لكم كيف تحكمون؟

قال رجل يُدعى بـ العفّاش مُقاطعاً:

ـ يا شيخ حامد، دع فلسفتك وجاوبني.. اتذكر كيف كان حال من قبلنا بلا قيَم.؟ وهل تفكّرت في النشأة الاولى وأمْشاجها، وأخلاط ماءها المُهين.. أأنت ومن معك تكون منها وجهاً جميلاً ولساناً سليطاً وعين لا خلاق لها، وقلب مشحون بالكراهية والسوء وبالقُبح تارة أخرى.

لم يُجبه الشيخ حامد ولم يُعقب.. وظلّ صامتاً وقد أطبق بُوزه في غضب.

فقال العفّاش بانتشاء:

ـ اعلم بأنك لن تُجيبني ولم تُعقب على قولي وستنكر الحقيقة؟. ولكني سأطرح عليك سؤالاً بطريقة مختلفة:

ـ لماذا غدر الناقِصين بسيّدهم فقتلوه بوحشية ودناءة وخِسّة؟.

قال رجل قصير القامة مُعقباً:

ـ يا أيها العفّاش، اهدأ قليلاً واتعظ، وقل من هم أعداء الوادي؟.

قال الرجل ذي العينين العسليتين:

ـ هو ومن على شاكلته.

ونظر بغضب إلى العفاش وإلى الشيخ حامد وقال:

ـ كل فِعْل مُشين به لباس من الباطل.؛ وأما اسئلتكم حول قرية الوادي فهي جزء من حقيقة الجد الكبير ما دام باقياً.؛ وأما ما يدور من اختلاف حول تغيير أحوال الناس ومعايش أطوار البشرية.. فكما يبدو، أنها من اصعب الحيوات الكونية، فالنشأة والتطوّر والتكوين، لكلّ واحدة تجربة في حدودها وما عبّرت عنها علاقات البشر؛ أمّا الذين أشرت إليهم من الرجال، والذين كانوا يَعملون في البحر، فما حدث في البحر هو ما حدث مثله على الرمال.. ولكن ما يَهم الناس، هو ذلك الاتفاق بين ملك البحر وبقيّة بحارة الساحل، أليس كذلك ؟ دعني أحدثك قليلاً بطريقة الحكاية.؟ خرق الملك الاتفاق وخان عهد الرجال، وكان ذلك بداية الخرق هو انعدم الثقة وغياب الموثق .. ومن نقض عهداً لا موثق له.! فإلغاء اتفاقية الساحل تُعَد بمثابة اعتداء على العَهد! ومن كتاب التكوين من سيرة الجد الأكبر، المحققة في صحيفة سيدي الجد الكبير، نقرأ “من اعتدى على عهد غيره، ولم يُبلغهم، كان خائناً”، ونفهم من ذلك، أنّ الحياة مَبادي وقِيَم والتزام.. وقد ذُكر سيدي الجد الكبير عن الرجل الأول “الأكبر” من خلال نصوص ثابتة، اقرأ بعضاً منها على مسامعكم (لم أكن الرّقيب عليكم ولنْ أكون، السَماء وحدها الرقيب عليكم، ولا أقول من فراغ ولكني أتْلوا عليكم ما تسمعون، فالحقّ قد يُؤخذ في الرمال ولكن العَدل أبْقى في السّماء”.

قال أزهر وهو يلتفت إلى ذي العينين العسليتين:

ـ نعم، صدقت، كلّ أخبار الأوّلين حكايات، اكثرها تتحوّل إلى أساطير مكذوبة لا حقيقة فيها إلاّ قليل مما تقرؤون في نصوص ثابتة، وأن الجدّ الكبير هو الحارس الامين، على مكانة الوادي وهيبة القرية، وكُلّ اختلاف فيه شِقاق فتجنّبوه، فشرارة الاختلاف شَتات وكلّ ثبات بداية، وإياكم وتُنكروا حقيقة ما يُبلغكم به الجد الكبير، فهو العَهد بينكم.

اعتدل “وليد“ في جلسته، وأخذ يتمنطق ما تحزّم به، واسترسل قائلا:

ـ أيها الناس .. أخذتُ على عاتقي بأنْ أكْمل رسالة الخيّرين من الرجال وأرى أنه من الواجب الإلْتزام ما أبْلَغ عنه جدي الكبير، وما اخبرنا به، فالتزموا وكونوا قوة وحياة تفخر بكم الرمال .. ثم وضع يده على صدره، وأردف قائلاً:

ـ أنا من حيث عرفتموني، ورأس الحِكْمة جدّي لم يزل باقياً بينكم، وإنْ اشْتدّت مِحن الحياة أو اشتدّ ضَيقها، فلا نُكْران للجميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى