أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

أهمية توثيق التاريخ السياسي .. إبن علوي أنموذجاً..

الإعـلامي/ زاهـر بن حارث المحـروقي

 

أهمية توثيق التاريخ السياسي .. إبن علوي أنموذجاً..

 

تشكّل المذكرات والشهادات والسير الشخصية مصادر مهمة في كتابة التاريخ؛ لذا نجد أنّ مثل هذه الكتابات انتشرت في الغرب كثيرًا، إذ يكتب العديد من المسؤولين مذكراتهم، بعد تركهم لمناصبهم، وتلقى إقبالا كبيرًا، لما تحمله في طياتها من معلومات تاريخية؛ ويُطبَع منها ملايين النسخ لكنها تنفد.

ونحن في عُمان نعاني من أزمة التوثيق والتأريخ، وهو ما سبق أن ذكرتُه مرارًا. صحيحٌ أنّ هناك الآن من يضطلع بمهمة البحث والتنقيب والتوثيق، إلا أنّها تبقى جهودًا أقرب إلى أن تكون فردية، فما زلنا نعتمد في توثيق تاريخنا على المصادر الغربية التي لديها الكثير عنا.

وقد اجتهد الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد الحارثي في ترجمة الوثائق العُمانية في الحكومة البريطانية، فجاءت «موسوعة عُمان – الوثائق السرية» في ستة مجلدات عن «مركز دراسات الوحدة العربية»، وكذلك موسوعة «يوميات المقيمية في الخليج والوكالة السياسية في مسقط» الصادرة عن «المنظمة العربية للترجمة» في ثلاثة مجلدات، وعن المنظمة نفسها صدرت أيضًا موسوعة «النفط والحدود في دول الخليج» في ثلاثة مجلدات أيضًا، وفي هذه الموسوعات الكثير من التقارير السياسية والإدارية المتعلقة بعُمان وعلاقاتها بالجوار، ولحقب متفاوتة متعددة، ناهيك عن زيارة المسؤولين الغربيين لعُمان.

وتتميز موسوعة «يوميات المقيمية في الخليج والوكالة السياسية في مسقط» بأهمية التقارير المرفوعة للتاج البريطاني، والتي اعتبرتها حكومةُ بريطانيا حينها أساسًا لرسم سياسات الإمبراطورية لهذه المنطقة، وكيفية التعامل مع شعوبها في المستقبل، وبناء مجتمع متوافق في علاقاته مع المملكة المتحدة، والملاحظ أنّ يوميات الوكيل السياسي في مسقط تتضمن أخبارًا يومية مهمة، قد تبدو للوهلة الأولى أخبارًا عادية لا ترقى إلى مستوى التوثيق، ولكن الآن تظهر قيمة تلك اليوميات التأريخية، وهذا يدلّ على أهمية كتابة السيرة اليومية، ومهما يكن من أهمية لتلك الأخبار أو الأحداث إلا أنها مكتوبة لأهداف تخصّ الطرف الكاتب والمرسلة إليه، ممّا يجعلنا نتساءل : أين نحن من كتابة تاريخنا؟ هذا السؤال تردّد في ذهني كثيرًا، وقد أعاده إليّ من جديد الأستاذ عبد الله يعقوب بشارة الدبلوماسي الكويتي البارز وأشهر أمين عام لمجلس التعاون الخليجي، عندما كتب مقالًا تحت عنوان «الوزير يوسف العلوي .. أربعون عامًا في دبلوماسية الحذر»، نشره في صحيفة «القبس» الكويتية بتاريخ 12 فبراير 2023م، تساءل في نهايته عن مصير خزائن الأسرار التي جمعها إبن علوي في حياته التي سماها «المثيرة»، وتمنى «أن يلبي حقّ التاريخ عليه في تدوين ما يراه ضروريًا، وفاءً أيضًا لحقّ الوطن الذي عشقه»، وذكر أنّ ابن علوي حيّره كثيرًا في محدودية كرمه في المعلومات التي يملكها : «وسؤالي الدائم : هل يبقى كاتم الأسرار ومالك الأخبار صلبًا في تجاهله لحقوق الأجيال القادمة في المعرفة، مع أملي بأن يفتح الباب الموصد بما يسمح للقارئ بالتجول في خريطة المهمات التي أتعبته والتي أيضًا أسعدته».

وإذا كنتُ أضمّ صوتي لصوت بشارة في أهمية أن يكتب إبن علوي مذكراته، فأذكر أني قلتُ له ذلك سابقًا؛ فتجربتُه ثرية جدًا، إذ قابل زعماء العالم، وعلى رأسهم رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، وعايش أحداثًا كثيرة مهمة على مستوى المنطقة والعالم، وكان قريبًا من فكر جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، وقلتُ له – وهو ما أومن به – إنّ تلك المذكّرات حقّ للوطن، وستكون مهمة للأجيال المقبلة، وكان ردّه إنّ زحمة العمل لا تترك له مجالًا للكتابة، وذكر لي أنّ الراحل صادق عبدواني عندما كان موظفًا في وزارة الخارجية، اقترح أن تُسجّل أنشطة الوزارة يوميًا، وأنه لو تمّ ذلك فعلًا ربما كان لنا أرشيفٌ مهم.

والشيء نفسه قلتُه للسيد المعتصم بن حمود البوسعيدي، الذي رافق جلالة السلطان قابوس رحمه الله منذ البدايات الأولى من النهضة العُمانية كمرافق عسكري للسلطان قابوس، وعاصر البدايات الأولى لنهضة عُمان الحديثة، ثم تقلد عدة مناصب وزارية، إلا أنه اعتذر عن ذلك.

وممّا ذكره لي الأديب أحمد الفلاحي أنه حثّ السيد حمد بن حمود على كتابة مذكراته باعتباره كان قريبًا من السلطانين سعيد بن تيمور وقابوس بن سعيد، إلا أنه اعتذر بحجة أنّ «هذه أسرار لا يمكن البوح بها».

ولا أدري لماذا لا نقرأ السيرة الذاتية لسماحة الشيخ أحمد الخليلي، ولماذا يحرمنا السفير السابق الشيخ هلال بن سالم السيابي من كتابة سيرته، وهو الذي تعرّض لمحنة الاختطاف في الجزائر، وغيرهما كثيرون.

في كلّ الأحوال ما زلتُ أعتقدُ أنّ الجيل الذي عايش فترة النهضة، يجب أن يوثّق تلك التجربة، سواء من المسؤولين أو المواطنين العاديين وفي كلّ المجالات، والواقع أنّ المذكّرات عامةً والسياسية خاصة، توفّر مادة تاريخية مهمة للمؤرّخين والباحثين، لأنّها تسلّط الضوء على أبرز الأحداث السياسية والوطنية الآنية، التي لا تلبث أن تكون تاريخًا؛ لذا لا ينبغي أن ننتظر نصف قرن من الزمان، حتى نقرأ أخبارنا من خلال المصادر الأجنبية، عندما تطلق سراح ما يمكن نشره حسب القوانين المتبعة عندهم.

في العصر الحديث مع انتشار الفضائيات، انتشرت برامج كثيرة تُوثِّق للأحداث، من خلال الالتقاء بالشخصيات التي لعبت دورًا فيها؛ فكان في قناة الجزيرة – مثلا – برنامج «شاهد على العصر»، وصحيحٌ أنّ معدّ البرنامج ومقدّمه كثيرًا ما وجّه البرنامج إلى الوجهة التي يريدها والتي تمثل أيديولوجيته، إلا أنّ ذلك لا يقلل من قيمة المعلومات التاريخية التي قيلت من قبل ضيوف البرنامج، كما أنّ قناة صحيفة «القبس» الكويتية المرئية سجلت لقاءات كثيرة مع الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، وكذلك مع الشيخ راشد بن عبد الله النعيمي وزير خارجية الإمارات السابق، ممّا ألقى الضوء على جوانب كثيرة من الحياة السياسية في المنطقة، وربما تكون مثل هذه اللقاءات أسهل من الكتابة، وهذا يدعونا أن نجدّد الدعوة للأستاذ يوسف بن علوي أن يظهر في لقاءات كهذه، حتى تكون الأجيال العمانية على دراية بالتاريخ العماني الحديث، وبمسار السياسة العمانية الخارجية المميّزة، التي أبعدت عُمان عن كلّ المهاترات والأحلاف.

وقد عاصر ابن علوي فترة تكوين السياسة العمانية الحديثة، وعاصر أحداثا مهمة غيّرت وجه التاريخ، مثل زيارة الرئيس السادات للقدس، واتفاقية كامب ديفيد، والثورة الإيرانية، إذ كان ثاني مسؤول عربي يقابل الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإيرانية، بعد الرئيس ياسر عرفات، كما أنه عاصر مجلس التعاون منذ لحظات إنشائه الأولى حتى تقاعده، وهو الملم بالخبايا والكواليس، وعاصر الحرب العراقية الإيرانية، واحتلال العراق للكويت، وتدمير العراق، والأزمة اليمنية وحصار قطر وغيرها من الأحداث، التي يحتاج القارئ المهتم لمعرفة تفاصيلها الدقيقة المخفية ممّن عايشها.

وبعيدًا عن المقابلات التلفزيونية، فإنّ هناك أسلوبًا أخر للتأريخ، عبارة عن لقاءات صحفية مطولة مع صاحب الشأن، كما فعل ذلك الصحفي الإيراني محمد مهدي راجي، الذي أجرى حواراتٍ مطولة مع محمد جواد ظريف سفير إيران لدى الأمم المتحدة، قبل أن يُصبح وزيرًا للخارجية الإيرانية، أصدرها في كتاب تحت عنوان «سعادة السفير»، فيه الكثير من المعلومات والمعطيات التي تفسر ملابسات بعض الأحداث السياسية.

ظهرت في الآونة الأخيرة كتبٌ قيمة تؤرّخ للتاريخ العُماني، مثل موسوعة «التاريخ السياسي والعلمي للسويق والمصنعة» والتي أعدّها الباحث فهد بن علي بن هاشم السعدي في تسعة مجلدات، وكذلك ظهرت عدةُ كتب عن بعض الشخصيات العمانية للدكتور محسن بن حمود الكندي، وكتب أخرى من تأليف يعقوب بن سعيد بن يحيى البرواني، تؤرخ لبعض الشخصيات وأدوارها التاريخية خاصة في المنطقة الشرقية، وكذلك صدرت عدة كتب للباحث محمد بن عبدالله بن سعيد السيفي، التي توّثق وتؤرّخ لكثير من الشخصيات والأحداث، منها كتابه «النمير»؛ كما صدر حديثًا عن «مركز ذاكرة عُمان» كتاب «تاريخ نيابة الحوقين» من إعداد بدر بن سيف بن راشد الراجحي، من ثمانية أجزاء، يتناول تاريخ الحوقين الجُيولوجي والعُمراني والاجتماعي والتّجاري والعِلمي والسّياسي، وأيضًا الرسومات والشواهد والكتابات الأثريَّة التي تتمتع بها النّيابة، والوثائق والمخطوطات والصور القديمة. وظهر شبابٌ عُمانيون مهتمون بالبحث والتنقيب والتأريخ، مثل سلطان بن مبارك الشيباني وخالد بن سليمان الخروصي وناصر بن سيف السعدي ومحمد بن حمد الشعيلي ومحمد العريمي وغيرهم، وظهرت دور نشر تهتم بإبراز التاريخ والتراث العمانيَين مثل «مركز ذاكرة عُمان» و«خزائن الآثار»، إلا أنّ ذلك لا يغني عن قراءة مذكرات من كان له دورٌ مباشرٌ في التاريخ العُماني الحديث، وكان شاهدًا على التحوّل الكبير للمجتمع العُماني والسياسة العُمانية، ويكفي ما ضاع من ذلك الإرث بغياب الشهود والفاعلين، ومن الخطأ الكبير أن نبقى معتمدين على المصادر الغربية فقط – رغم أهميتها -، ومثلا فإنّ مجلدات «دليل الخليج» الأربعة عشر، التي تُعتبر مرجعًا رئيسيًا لتاريخ وقبائل وجغرافية الخليج، والتي أصدرها ج. لوريمر عام 1914، فإنّ الكثير من المعلومات الواردة فيها فقدت قيمتها لقِدَمها، ومن حقّ الأجيال العمانية المتعاقبة أن تلم بتاريخ بلادها الحديث وكواليس ما حدث فيها منذ عام 1970.

 

* تم نشر المقال بموافقة الكاتب ، نقلاً من جريدة عمان – عدد الإثنين 20 مارس 2023م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى