أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

عـنـجـهـيـة بنـفـسـجـيـة !!..

شـيـخـة الـمـحـروقـيـة

 

عـنـجـهـيـة بنـفـسـجـيـة !!!..

 

برز في السنوات الأخيرة مصطلحٌ جديد يستفيد من لعبة الألوان ليجد مكانته في الساحة العالمية ألا وهو “الاقتصاد البنفسجي”، إذ تقرر أن يكون البنفسجي رمزًا للثقافة لما تحمله من قيم عليا كالاتزان والحكمة والشغف والإبداع، وفي معاني الألوان تاريخيًا وحاضرًا يرمز هذا اللون إلى الملكية، وما ارتداء الثقافة له إلا تأكيدًا على أنها ترفع من شأن صاحبها وتمنحه صفات الملوك كالقوة والسيطرة والمكانة العالية.

“الاقتصاد البنفسجي” مفهومٌ أقرّته منظمة اليونيسكو بالتعاون مع المفوضية والبرلمان الأوروبيين عام 2011م بطلب من الشركات التجارية الكبرى التي أدركت حاجتها لوضع ثقافة وفكر الآخر بعين الاعتبار في تسويقها لمنتجاتها وسلعها، وقد بدأ ذلك مع شركة كارفور الفرنسية التي كانت تقدّم بضائعها وفق ما يتناسب والفرنسيين وليس كما يتوافق مع ثقافة الصينيين حيث القوة الشرائية الكبرى في العالم، فانتبهت كارفور إلى ضرورة جعل الثقافة عاملاً تسويقيًا لمنتجاتها حول العالم، وهذا بحد ذاته إشارة إلى أن الاقتصاد البنفسجي لا يعدو أكثر من كونه مفهومًا رأس مالي يستفيد من القوة الناعمة للثقافة، وإني لأعتقد لو أن الصينيين أقبلوا على شراء كعك مادلين أو الكرواسون الفرنسي لما فكّر كارفور ببيع كعك القمر أو كعك تشونغ يانغ، لما تكلّف عناء التعرّف على الثقافة الصينية وسبر أغوارها، ولم يكن ليتنازل عن عالمه المادي ليتقدّم بمبادرة إنسانية إلى منظمة اليونيسكو فيتم على إثرها ولادة مفهوم عالمي جديد يُعرف بــ “الاقتصاد البنفسجي”.

في واقع الأمر أن دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ليست بحاجة لتبنّي مبادئ هذا الاقتصاد لأنها في الأصل تعاني من التجاهل والإقصاء من قِبَل الغرب الذي عتّم وجودها في مناهجه التعليمية كبلدان لها موقع جغرافي ودور تاريخي على هذه الأرض، كما أن دولاً انتهجت مباديء التسامح والتعايش والسلام كسلطنة عمان لا بد أن تُعد النموذج الأفضل في احترام الآخر؛ لذا فالاقتصاد البنفسجي الذي وُجد لتقدير التنوع الثقافي هو مفهوم يجب أن يتعلّمه الغرب وحده وليس أحدٌ سواه؛ فأوروبا مثلاً احتلت دول أفريقية عديدة وجرّدتها من ثقافاتها وحرمتها من صناعة هويتها، ثم أقامت على جثمان تلك الدول مملكتها الثقافية العليا؛ فالمتاحف الأوروبية الكبرى كاللوفر بباريس والمتحف البريطاني بلندن ومتحف الفن والتاريخ في بروكسل تغصُّ بالمقتنيات والآثار الأفريقية المسروقة، بل وترفض أوروبا إرجاعها إلى موطنها الأصلي، ولعل الخلاف بين بلجيكا والكونغو يُعد أقرب حادثة تؤكّد على التعالي الأوروبي واعتقاده بأنه الأقدر على خدمة البشرية؛ حيث طلبت الكونغو من بلجيكا عام ٢٠١٨م إعادة آثارها المسروقة؛ بيد أن الأخيرة رفضت لأنها ترى الأولى غير مؤهّلة للحفاظ على تاريخها وإرثها.

إن اغترار أوروبا بثقافتها وتاريخها وحضارتها العظيمة أعماها عن الغزو الثقافي القادم من أمريكا التي تقدّمت بمراحل عنها علميًا واقتصاديًا، فمع بداية القرن العشرين تعرّضت أوروبا لحربٍ قيمية ثقافية هددت هويتها، فكانت هوليوود وشخصية سوبرمان البطل وأزياء GAP وجينزات Levi’s مؤثرة جدًا على فكر الشباب الأوروبي آنئذ، وتلاها في ذلك ثقافة مكدونالدز وكنتاكي وبرجر كنغ والأطعمة المعلّبة ثم موسيقى البوب والراب والهيب هوب وسيارات فورد وتقنيات جوجل وآبل وأمازون؛ فبدت الهوية الأوروبية ضبابية وعائمة في محيط العولمة الشاسع، وحاول المفكرون والمثقفون الأوروبيون كجورج أورويل وجون كيتس التصدّي لـ “الأمركة” في مهدها، أما الفرنسيان روبرت آرون وآرناود دانديو وصفا أمريكا بالسرطان لأنها استطاعت بسرعة هائلة فرض ثقافتها في أوروبا والعالم عبر الإعلام والترفيه والغذاء والمواصلات والمنظمات الحقوقية.

واجهت أوروبا ذلك عبر المنافسة في ذات الميادين؛ فتوجهت إلى تعزيز صناعاتها الثقيلة وعلاماتها التجارية وتوزيعها في أنحاء العالم، ومن خلالها أكبرت قيمها التي تعطيها الأسبقية والفوقية أيضًا؛ فالسيارات المصنوعة أوروبيًا مثل مرسيدس و BMW ورنج روفر رغم انتشارها في العالم إلا أنها وضعت معايير عالية تجعلها متاحة للطبقات العليا وأصحاب الأموال فقط بخلاف السيارات الأمريكية، كما عززت أوروبا وجود العلامات التجارية الفاخرة مثل لويس فيتون وجوتشي وباربري و ديور وغيرها في جميع الأسواق لتكون أمام عموم الناس دون أن تصل إليها أيديهم، فلا يقتنيها سوى من يحمل بمحفظته المال الكافي لذلك، أضف إليه أن هذه العلامات لا تتبرع بمنتجاتها الفائضة للفقراء حتى لا تقل قيمتها المعنوية كعلامة فاخرة، كما تعمل أوروبا حاليًا على فرض وصايتها ورعايتها على الثقافات الأخرى تحت شعارات حقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة دافعةً بالنتاجات السينمائية والأدبية القادمة من الشرق الأوسط لأنْ تعرض ثقافة أوطانها على أنها متأخرة ورجعية وبحاجة إلى الإصلاح حتى تتمكّن من تسجيل حضورها في المحافل والجوائز الكبرى.

بعد انكشاف الغرور الأمريكي في أوضح صوره والمتمثّل في شخصية ومواقف الرئيس السابق دونالد ترامب المدفوعة بالفوقية البيضاء، زلّت قدم أوروبا وكشفت عن وجهها الحقيقي؛ فتجاهلت معاناة أفريقيا في مواجهة جائحة كورونا، ثم أنهت حربها المزعومة ضد العنصرية ريثما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث استنكر القادة الأوروبيون مشهد الدمار الذي تراه العيون الزرقاء في الوجوه البيضاء المغطاة بالشعر الأشقر، ثم ضربت شعارات حقوق الإنسان والديموقراطية عرض الحائط في تعاملها مع اللاعب المسلم الفرنسي من أصول سنغالية إدريسا غاي عندما مارس حقه في عدم المشاركة بحملات دعم المثليين، ومع ازدياد شراسة التنين الصيني الذي استطاع أن يسطو ثقافيًا على مناطق في الشرق الأوسط وأفريقيا سارعت أوروبا إلى استخدام أدوات ناعمة كالتواضع والتنازل حتى لا تفلت هذه المناطق من قبضتها؛ فبعد تصريحه العنصري بأن مشاهد الألم والحروب هي معتادة في أفريقيا والشرق الأوسط وليس في مكان كأوروبا، سارع الأمير ويليام برفقة زوجته إلى زيارة أفريقيا للتربيت على ظهرها ليكمل “العملاق النائم” سباته، كما تابعنا ملك بلجيكا وهو يعيد بعض مقتنيات وآثار الكونغو إلى شعبها الأصلي، وهي من أصل 80 ألف قطعة مسروقة منذ عهد الملك ليبولد الثاني.

لست متحاملة على الغرب بل إني لمعجبة بثقافته وتاريخه وحاضره، بيد أن هذا الإعجاب تحددت أطره بعد تحقق الفهم والرؤية الواضحة للشخصية الغربية المتغطرسة إلى حد التفاخر بتاريخ مسروق، ولعلنا نحن العرب نتعلّم عدمَ الخنوع للآخر خاصة وأننا نمتلك إرثًا أصيلاً لم نسرقه ولم نغتصبه من أحد، وندّكر أن المبالغة في الاعتزاز بالتاريخ قد يجعلنا نغتر ونكتفي بما حققناه فلا ندرك تقدّم الآخر ثقافيًا إلا يعد فرض استبداده علينا، أما على المستوى الفردي فقد علّمتني العنجهية البنفسجية التي أظهرها الغرب أن أقدّر وأحترم وأعشق ثقافتي أكثر، فلا يمكن أن أضعها أو أقبل بأن يضعها أحد في مرتبة أقل من أي ثقافة أخرى، ولا يمكن أن أقبل سلفًا وجزافًا بكل ما هو آتٍ من الآخر قبل أن أضعه تحت مجهر ثقافتي الإسلامية العربية العمانية؛ فأقوم بتمحيصه والتدقيق في مكنوناته ثم قبوله أو رفضه، وفي المقابل أتوقع من الآخر أن يتعامل معي بالمثل، لنعيش بذلك في عالم يجعل من البنفسجي لونًا للثقافة الآخذة إلى التوازن والحكمة والعدالة لا لتلك الداعية إلى التعالي والغرور والعنجهية.

هوامش :

العملاق النائم : لقبٌ عُرفت به أفريقيا لما تمتلكه من ثروات غير مُستغلّة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى