أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

مونديال قطر وانحياز الشعوب العربية لفلسطين..

زاهر بن حارث المحروقي

 

مونديال قطر وانحياز الشعوب العربية لفلسطين..*

 

بعيدا عن كرة القدم، وتحليل المباريات، ومَن الفائز والخاسر داخل المستطيل الأخضر، وبعيدا عن موضوع الشذوذ، الذي أرادت الدول الغربية أن تفرضه على الناس، هناك فائز واحد في هذه البطولة، وهو الشعب العربي الذي أكد حبّه وانحيازه لفلسطين وللفلسطينيين، عندما أعلن بكلّ صراحة، رفضه التعامل مع الإسرائيليين حتى في الأمور البسيطة، ممّا يعني بالتالي الرفضَ التام للتطبيع مع الكيان، وأنّ الحكومات المُطبِّعة في واد والشعوب في واد آخر، وهو موقف أغضب الإسرائيليين، وأسعد المواطنين العرب في كلّ مكان، وعبّر عن ذلك سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عُمان بتغريدته: «إنا لنذكر بكلّ تقدير الذين رفضوا التعامل مع الصهاينة المحتلين عندما التقوا بهم في قطر، سواء في ذلك الإخوة القطريون، أو سائر الأشقاء العرب والمسلمين؛ إذ لم يرضوا لأنفسهم المداهنة المحرمة شرعا، وصرحوا لهم أنهم محتلون ليس لهم من الحقّ شيء، وهذا يدلّ على أنّ الأمة لا تزال بخير».

وللتدليل على أنّ الأمة لا تزال بخير، فلا بد أن نشير إلى أنّ التطبيع الشعبي فشل فشلا ذريعا ليس في هذه الأيام فقط؛ وإنما فشل مع الشعب المصري الذي كانت حكومته أول دولة عربية تكسر المحرّمات وتعقدُ صلحاً منفرداً مع الكيان الإسرائيلي، ولكن رغم مرور أكثر من أربعة عقود على ذلك الصلح، فإنّ الشعب المصري لم يتعامل مع الإسرائيليين، وكذلك فإنّ العلاقات الرسمية باردة، وهو ما دعا الصحفية والكاتبة الإسرائيلية سمدار بيري أن تقول في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، إنّ السلام مع مصر «بحاجة ماسّة للإنعاش، خصوصا من طرف صُنّاع القرار في القاهرة».

بفضل وسائل الاتصال الحديثة، شاهدنا لقطات كثيرة عن رفض الشباب العربي من الأقطار العربية المختلفة، التعامل المباشر مع الإسرائيليين ومع وسائل إعلامهم، التي جاءت إلى قطر لتغطية فعاليات كأس العالم، وظنّ العاملون في هذه الوسائل أنهم سيتنقّلون من مكان إلى آخر بكلّ حرية، بسبب التصريحات الإسرائيلية العديدة التي أكّدت تقبّل الشعوب العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وكان دُور هوفمان مُراسِل هيئة البثّ الإسرائيليّة شبه الرسميّة «كان»، الأكثر وضوحا في تقرير بثّه من الدوحة، كشف فيه النقاب عن أنّ «اليوم كان يوما (معفنا)، بدأ في ساعة صباح مبكرّة، اعتلينا سيارة أجرة، لننتقل إلى مكان آخر، ولكن عندما علِم السائق بأنّنا من إسرائيل، أوقف السيارة وأمرنا بالنزول فورا، كما أنّه رفض الحصول على أيّ مبلغ لقاء السفرة، وقال لنا لا أريد منكم أجرة، أنتم تقتلون إخوتي في فلسطين».

لم تكن تلك إلا البداية، فيكمل القصة دُور هوفمان ما حصل قائلاً : «تابعنا .. ووصلنا إلى أحد الشواطئ لتصوير مقاطع عن الوضع وعن أجواء كأس العالم، وجدنا مطعما في المكان، وعندها تقدّم إلينا صاحب المطعم وطلب منّا أنْ نُبلغه من أيّ دولة نحن، وعندما قلنا له نحن من إسرائيل، استدعى على الفور الحُرّاس في المكان كي يقوموا برمينا خارجاً، وأخذ جهاز الهاتف المحمول الخّاص بيّ، وطلب منّا أنْ نقوم بشطب جميع الصور والمشاهد التي التقطناها؛ عندها شعرتُ بالخطر يهددني، لأنّني أتواجد في دولة مُعادية».

وما حصل مع طاقم قناة «كان» حصل كذلك مع طاقم القناة الـ12 بالتلفزيون الإسرائيليّ، ومع كلّ الوسائل الإعلامية التي حضرت للتغطية، ووصل الأمر إلى التعامل الجاف مع كلّ الإسرائيليين. وربما تكون أبلغ لقطة هي حين شارك شاب إسرائيليّ شبابا من تونس في فرحتهم بالتعادل في المباراة الأولى مع الدنمارك؛ فمجرد أن عرف الشاب التونسيّ أنّ هذا إسرائيليّ ابتعد عنه تماما، وكأنّ وجوده أفسد عليهم فرحة النقطة الأولى.

ومن اللقطات التي انتشرت لقطة لمراسل قناة إسرائيليّة وحيداً بائساً يائساً، بعد أن رفض كُلّ المُشجّعين التحدّث معه، لمّا علموا أنه من الكيان الإسرائيلي، ما أكّد أنّ التطبيع العربي مع دولة الكيان مرفوض، وهو ما اعترف به المُراسلون الإسرائيليّون في قطر، وعبّروا عن صدمتهم بمدى الكُره لدولتهم، وهذا جعلهم في النهاية يخفون عن الناس هويتهم، فيذكر أحد المراسلين الإسرائيليين : «في الشارع فلسطينيون وإيرانيون وقطريون وأردنيون ومغاربة وسوريون ولبنانيون ومصريون يلاحقوننا بنظرات مليئة كراهية، كنا في البداية نعرّف عن أنفسنا أننا من (إسرائيل)، لكن بعد هذا التعامل من قبل الجماهير العربية معنا، زعمنا أننا من الإكوادور»، وقد ترجم الزميل بدر بن خميس الظفري مقالاً نُشر في النسخة الإنجليزية لموقع «يديعوت أحرونوت» عن تجربة مراسلَيْ الصحيفة في قطر، فكانت الخلاصة هي : «على الرغم من اعتقادنا -بصفتنا ليبراليين منفتحين- أنّ الصراع مع العالم العربي هو بين الحكومات وليس بين الشعوب، علّمَتنا قطر أنّ الكراهية موجودة -أولاً وقبل كلّ شيء- في عقول الرجال في الشارع، فأيّ فكرة عن إسرائيل تثير اشمئزازهم التام».

لكن الغريب بعد كلّ ذلك أن تبعث وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة برسالةِ احتجاج إلى دولة قطر والفيفا، عبر وفدها الدّبلوماسي المُقيم مُؤقّتا في الدوحة، ضدّ ما حدث لطواقمها الإعلاميّة ومُشجّعيها من احتقار وازدراء، وكأنّ قطر تملك أن تغيّر مشاعر الناس.

إذن فقد قدّم مونديال قطر العالمي، رسالة إلى الحكومات العربية المُطبّعة -وتلك التي في الطريق للتطبيع- أنّ الشعوب العربية ليست راضية عن التطبيع، وأنّ سياسة القمع وتكميم الأفواه، ربما تجعل الناس يبدون وكأنهم مسالمون، ولكن تحت الرماد نيرانا متى ما وجدت الفرصة، ستلتهم الأخضر واليابس. ومهما كان من أمر، فالمعادلةُ لصالح الشعوب؛ ولا أعتقدُ أنّ حكومة ما من الحكومات العربية التي طبّعت مع الكيان الصهيوني والتي ستطبّع مستقبلا، لا تعي خطورة ما أقبلت عليه، وأنّها لا تمثل رغبات شعوبها في ذلك. ومن محاسن إقامة بطولة كأس العالم في قطر أنّ الشعوب وجدت الفرصة السانحة للتعبير عن رأيها ضد التطبيع، وضد المعاناة التي يعانيها أشقاؤهم الفلسطينيون صباح مساء، لذا رأينا الشباب العربي -وحتى غير العربي- يحمل أعلاما فلسطينية ويتوشحون بالوشاح الفلسطيني تعبيرا عن مواقفهم تجاه إخوانهم، وهي دلالة على أنّ الشعوب العربية تقف على ضفة بعيدة عن الضفة التي تقف فيها الحكومات، ولا يمكن لأيّ أحد أن يفرض الحب بالقوة، وقد أدركتْ الحكومات المصرية المتعاقبة هذه الحقيقة، ولم تفرض التطبيع على الشعب المصري.

ولكن على وقع ما حدث في مونديال قطر، إذ أصبح واضحا كالقمر ليلة البدر أنّ التطبيع الشعبيّ الإسرائيلي مع جميع شعوب الدول العربية مرفوض؛ فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : ماذا ستفعل إسرائيل تجاه هذا الأمر؟ هل ستكتفي بالتعامل مع الجهات الرسمية المُطبّعة فقط؟ أم أنّ هناك خطة ما ستلجأ إليها لاختراق هذه الشعوب الحرة؟ لقد حاولت إسرائيل كثيرا الوصول إلى الشعوب العربية مباشرة، وساعدتها في ذلك القنوات الفضائية العربية، ومنها قناة «الجزيرة» طبعا، التي أفسحت مجالا للصهاينة لمخاطبة الشعوب العربية، ولكن النتيجة كانت الفشل التام، وأظن أنّ الخطة الجديدة والتي بدأ تنفيذها بالفعل، هي التدخل في المناهج الدراسية، خاصة في الصفوف الأولى، لأنّ نتائج ذلك ستكون مضمونة على المدى البعيد، وقد احتفت وسائل إعلام إسرائيلية بقرار إدراج «الهولوكوست» ضد اليهود في المناهج الدراسية في بعض الدول العربية، بعد الاتفاقيات التي عُرفت باسم «أبراهام».

وإذا كانت قطر قد نجحت في استضافة هذا الحدث الرياضي العالمي، فإنه يُحسب لها أيضا -ضمن أهداف كثيرة سجلتها- أنها سمحت للشعوب العربية أن تُعبّر عن مشاعرها تجاه فلسطين وموقفها تجاه الكيان الإسرائيلي، وقد أثبت مونديال قطر -بدون أيّ لبس- أنّ إسرائيل منبوذة شعبيّا عربيّا وعالميّا، وهي لن تنجح في الوصول إلى الشعوب العربية، إلا بواسطة عملائها، ولن تنجح إلا بالأساليب الملتوية؛ أما غير ذلك فلن تنجح أبدا.

 

* تم نشر المقال بموافقة الكاتب ، نقلاً عن جريدة عمان .. عدد الإثنين 5 ديسمبر 2022م..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى