أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

فـعـلـهـا سـيـد الـكـرمـلـيـن!!..

عـبـدالحلـيـم قـنـديـل

Kandel2002@hotmail.com

 

فـعـلـهـا سـيـد الـكـرمـلـيـن!!..

 

هل حقا كان هناك انقلاب فى “موسكو” ؟، وهل تمرد “يفجينى بريجوزين” قائد جماعة “فاغنر” على الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ؟!.

لا يبدو من جواب واضح وقاطع، برغم زحام الأخبار والتحليلات المنشورة فى كل الدنيا، وبرغم تدفق صور أرتال “فاغنر” إلى مسافة 200 كيلومترا جنوب العاصمة “موسكو”، بعد أن سيطرت على مقر القيادة العسكرية الجنوبية فى مقاطعة “روستوف”، وبعد أن جلس “بريجوزين” مع قادة عسكريين كبار عند باب القيادة، هم يحادثونه بهدوء، بينما يرفع قائد “فاغنر” صوته، وهو يرد عليهم بلهجة آمرة، ويطلب تسليمه وزير الدفاع “سيرجى شويجو” ورئيس الأركان الجنرال “فاليري جيراسيموف”، ربما ليحاكمهما أو يقتلهما، أو يعلقهما على مشنقة في الميدان الأحمر، وإلى غيرها من تصريحات صاخبة، سبقت تحرك قواته العاصف، بدءاً من السابعة صباح السبت 24 يونيو 2023 إلى ساعات المساء، التى انتهى عندها كل شئ، وسحب “بريجوزين” قواته كلها في دقائق، ومن دون أن يتعرض لها أحد، ولو بطلقة رصاص طائشة، لا فى الذهاب ولا فى الإياب.

وقد لا تكون القصة كلها مسرحية مصنوعة، وإن لم تخل الوقائع الحاكمة فيها من “تمسرح”، بدا دور البطولة الظاهر فيها معقودا لقائد “فاغنر” الزاعق المتعجرف، بينما البطل الحقيقي هو الرئيس “بوتين”، الذى حصد تعاطف الداخل الروسى فى أغلبه، وأدار اللعبة كلها بدهاء واثق، وأرغم “بريجوزين” على سحب لسانه، وكان الأخير قد أعلن ما يشبه الحرب على “بوتين” نفسه، وأعرب عن خيبة أمله من خطاب “بوتين” الأول المتشدد، الذى اتهم “بريجوزين” وجماعته صراحة بالخيانة العظمى، ثم راح يدير التفاصيل فى الخفاء، ويسمح لرجله الرئيس البيلاروسى “ألكسندر لوكاشينكو” بإبلاغ “بريجوزين” باتفاق عاجل، قضى بأن يذهب “بريجوزين” إلى “بيلاروسيا”، وأن ينتهى “التمرد” المعلن، وهو ما نفذه “بريجوزين” فورا، وبدعوى الحيلولة دون سفك الدماء الروسية، وقبل أن يغادر إلى المنفى البيلاروسى الصوري، صدر عنه شريط صوتي، نفى فيه أنه كان يريد الانقلاب على السلطة الروسية، أو أنه كان يريد إزاحة “بوتين” الرئيس “المنتخب” كما قال، وإن أكد على كراهته لوزير الدفاع ورئيس الأركان، وقد بقيا فى منصبيهما بعد كل ما جرى، وربما حتى إشعار لاحق قد يتأخر، فقد أراد “بوتين” أن يؤكد ما هو مؤكد، من أن الخيوط كلها فى يده، وأن لا صوت يعلو فوق صوته، وعلى العكس تماما مما روجته وتروجه السياسة والدعاية الغربية، ومزاعمها المدفوعة بالتمنيات عن ضعف “بوتين”، ناهيك عن نشر قصص بدت مغالية في “الهطل” ، من نوع هروب “بوتين” من قصر الكرملين، وقت تقدم قوات “فاغنر” إلى “موسكو”، وإعلان واشنطن عن تأجيل فرض حزمة عقوبات على “فاغنر”، وحتى لا يبدو أنها تدعم بوتين المتراجع خوفا من زحف “فاغنر” !، وإلى حد بدت معه الدعاية الغربية وكأنها فيلم مقاولات هابط، يصور روسيا كأنها دولة فاشلة ضائعة، انفكت عنها سلاسل الضبط والنظام العام، وتدفع واشنطن إلى مغازلة “بريجوزين”، الذي قد تذهب إلى جيبه “أزرار” الحقيبة النووية الروسية، ويصير سيداً للكرملين، وبيده قوة “الثالوث النووي” الروسى الرهيب، ثم كانت النهاية السريعة المفاجئة لما جرى، وكأنها “حمام ثلجي” من أعماق برودة “سيبيريا”، أغرق تجهيزات الأفراح، والشماتة والليالى الملاح فى عواصم الغرب، التى أمرت أوكرانيا بتطوير “الهجوم المضاد” في اللحظة الذهبية الموهومة، وتوجيه ضربة قاضية للوجود الروسى فى شرق أوكرانيا وجنوبها، وهو ما بدا كانسياق عبثي وراء سراب خادع، يحسبه الظمآنون الغربيون بئر ماء فرات.

إنها خيبة الغرب “بالويبة” فى فهم الداخل الروسي، وقد تكون لهم أعذار فى صعوبة فك الشفرات، ربما لغلبة أمنياتهم على الواقع، وربما لأن ألغاز روسيا معقدة فى ذاتها، فالروس أنفسهم يرددون مثلاً يقول : “روسيا لا تُفهَم بالعقل” ، فالبلد الأوسع مساحة بما لا يقاس على كوكب الأرض، والمتنوع في قومياته وأعراقه التى تناهز المئتين، قد يكون مغرياً باختراقه وشد أطرافه الكونية، لكن صلابته برغم تنوعه المدهش، تأتي من قوة القبضة المركزية فيه، ومن صبره واحتماله الهائل لمكاره وهزائم ، يخرج بعدها أقوى، وهو ما بدا في وقائع تاريخ حديث ومعاصر، من نوع قهره لحملة “نابليون” و”حملة هتلر”، ومع تفكيك إمبراطورية موسكو “السوفيتية” أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدا أن قصة روسيا طُوِيَت للأبد، وأنها صارت فريسة للغرب، ولم يكد يمر عقد من الزمان، حتى راحت روسيا تنهض من كبوتها، وتشد عصبها المركزي مع قيادة بوتين رجل المخابرات الغامض، وفي أجواء المحنة فالإفاقة، كانت عصابات “الأوليجارشية” في الاقتصاد والسياسة والشارع، تبني سلطات ظل مسيطرة، بدأ بوتين التخلص منها بذكاء ومكر وخداع، ولجأ إلى توظيف بعضها، أو التخلص التدريجي منها، وهو ما فعله مع كثير من حيتان روسيا بعد فوضى فترة “بوريس يلتسين” المخمور دائما، والذي صعد “بوتين” من تحت ذقنه، تماما كما تكونت ظواهر عصابات المافيا الروسية، ومليارديرات السلب والنهب، الذين دخل معهم “بوتين” فى مراوغات فمعارك، وشئ من ذلك جرى في دراما علاقته مع “بريجوزين”، الذي كان مجرماً بطبعه، وسجيناً جنائياً في أواخر العهد السوفيتي، كان مداناً بجرائم سطو مسلح، وخرج للحرية مع سنوات الفوضى، وبنى سطوته “المافياوية” في مدينة “سان بطرسبرج”، وهي مسقط رأس “بريجوزين” و”شويجو” و”بوتين” نفسه، وقد كان “شويجو” وزيراً في عشر حكومات توالت منذ أيام “يلتسين”، وتوثقت صلاته مع “بوتين”، الذي اصطفاه في مهمات خاصة، كان أبرزها توليته “وزارة الطوارئ” شبه العسكرية، ثم اختاره وزيراً للدفاع، برغم أنه ليس عسكرياً من أصله، تماماً كحالة قائد ومؤسس جماعة “فاغنر”، الذي يُعرَف بلقب “طباخ بوتين” ، وبنى سلسلة مطاعم شهيرة، ذاع صيتها بعد حصولها على عقود توريد الأطعمة إلى قصر الكرملين فيما بعد، وصار “بريجوزين” الذى تضحمت ثروته بسرعة، رقماً في معادلات “بوتين”، وصديقاً في الدائرة المقربة، ومن حملة أسرار “الكرملين”، وكلَّفَه “بوتين” بإنشاء “فاغنر” كشركة أمنية، برغم أن القانون الروسى لم يكن يسمح بإنشاء شركات عسكرية خاصة، وظل الوجود “العرفي” لقوات “فاغنر” يواصل صعوده، ويبني أسطورته منذ عام 2016، وراح نشاطها “العرفي” يتمدد بسرعة من “الدونباس” الروسي فى أوكرانيا، وإلى سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان ومالي وغيرها، وإلى أن صارت عنواناً مشتهراً للنفوذ الروسي، تتكون جماعاته المقاتلة أساسا من نخبة عسكريين روس متقاعدين، بالإضافة إلى سجناء ومجرمين من عينة قائدهم “بريجوزين”، وخاضوا معارك مميتة في حرب أوكرانيا، لعل أبرزها جولات “مفارم اللحم” في “سوليدار” ثم في “باخموت”، وبما أغرى قائد “فاغنر” المدعوم من “بوتين”، أن يناطح بعض قادة الجيش الروسي نفسه، وأن يتخذ من “شويجو” و”جيراسيموف” موقفاً صدامياً، تدرج من نقد بدا متفقاً عليه إلى انفجار عصبي، بعد قرارات صدرت بعلم “بوتين”، قضت باشتراط تعاقد أي قوات رديفة مع وزارة الدفاع، أي مع “شويجو” عدو “بريجوزين”، وهو ما رآه الأخير محاولة لتصفية نفوذه المتضخم، خصوصاً بعد اتهامه لوزارة الدفاع بقصف وقتل الكثير من جنوده، وإلى أن جرى ما جرى عاصفاً وزاحفاً باتجاه “موسكو”، وهنا وجد “بوتين” أن اللحظة قد حانت، فقد ظل صامتاً قبلها لشهور، وهو يراقب دورات شتائم “بريجوزين” لقادة وزارة الدفاع، الذين اختفوا بالأمر عن الأنظار فجأة يوم “التمرد” الموصوف، ولم يصدر عن “شويجو” و”جيراسيموف” حرفاً ولا تعقيباً واحداً، ولا صدر أمر بطلقة رصاص من “بوتين” نفسه، الذي وجد أن الفرصة نضجت أخيراً لتقليم أظافر “بريجوزين”، وربما إعادة توظيفه في مهمات أخرى، وهو ما أكدته تصريحات “سيرجي لافروف” وزير الخارجية، التى طمأن فيها دولاً أفريقية على استمرار خدمات “فاغنر” لصالحها، ثم بدت التفاصيل أكثر وضوحا مع إعلان “بوتين” نفسه، أنه يقدر وطنية وبطولة الأغلبية العظمى من عناصر “فاغنر”، ويدعوهم إلى واحد من ثلاث خيارات، إما التعاقد كأفراد مع الجيش الروسي في الداخل أو في أوكرانيا، أو العودة إلى منازلهم، أو الالتحاق بقائدهم فى “بيلاروسيا”، مع إعفاء “بريجوزين” وشركته من الملاحقات القضائية، وبما يوحي في الحقيقة لا على خشبة المسرح أن “بوتين” نفَّذ تصوراً مسبقاً لإعادة توزيع خرائط النفوذ، ربما من دون توجيه الشكر “المخابراتي” المعتاد للأعداء الأغبياء في عواصم الغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى