أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

تـسـعـون دقـيـقـة !!..

شـيـخـة المحـروقـية

 

تسـعـون دقـيـقـة..

 

ليست مجرّد تسعين دقيقة أو أكثر من أجل المتعة أو قضاء الوقت، وليس كسلاً للتسمّر أمام الشاشات لمتابعة 22 لاعبًا وهم يركضون جيئةً وذهابًا، ويتنافسون ويتقاتلون من أجل كرة، كما لا يلتفت عشّاق الساحرة المستديرة إلى سخرية عشّاق الكآبة الذين يقولون إنهم قد وقعوا في الفخّ الذي نصبه السياسيون الذين ابتكروا كرة القدم لإلهاء الشعوب عن القضايا المهمّة.

في واقع الأمر إنها أقوى تسعين دقيقة عرفها التاريخ؛ فبسببها تمكّنت دولٌ من استعمار العالم عاطفيًا وفكريًا، ولأجلها سخّرت دولٌ وحكوماتٌ جميع طاقاتها ومواردها لتحقيق وجودٍ واسمٍ ومكانةٍ بين الأمم.

إنجلترا هي مهد كرة القدم العصرية؛ فقد طوّرتها وأوجدت المنافسات والمباريات للترفيه عن الطبقة العاملة، فأصبح الإنجليز على موعدٍ مع مباريات كرة القدم كل سبت وأحد، وانشغلوا بها وأصبحت حديث مجالسهم وورقة رابحة في مراهناتهم، كبرت شعبيتها على مر التاريخ وتغيرت صور منافساتها إلى أن أصبحت اليوم تُلعب في صورة الدوري الإنجليزي الممتاز الذي يُعتبر أقوى وأشهر بطولة على مستوى الدوريات العالمية، حيث تُقدّر مساهمته السنوية في إجمالي الدخل المحلي للمملكة المتّحدة ما يقارب 8 مليار جنيه استرليني وفق احصائيات موسم 2019-2020، ويوفر ما يقارب 100 ألف وظيفة تشمل الأطفال والمراهقين والراشدين، كما بلغ عدد السيّاح القادمين لحضور مباريات الدوري الإنجليزي في ذلك الموسم قرابة 1.5 مليون زائر أنفقوا ما يقارب 1.4 مليار جنيه إسترليني، وتستغل الممكلة المتحدّة هذا العشق لدوريها الممتاز لتخبر العالم من هم الإنجليز، فالصرامة والالتزام في تطبيق قوانين اللعب النظيف واستخدام وتطوير التقنيات لضمان ذلك يرسم صورة محسّنة عنها كدولة بأنها تحتكم للقانون والنظام في كافة شؤونها حفظًا للحقوق والعدالة؛ فالتمسّك بهذه القيم الإنسانية العليا – أمام الملأ على الأقل – يجعلها جديرة بالاحترام والثقة.
يمرر الدوري الإنجليزي الممتاز العديد من الرسائل مستفيدّا من سيطرته على سوق البث التلفزيوني حيث يتمكّن سكّان 188 دولة حول العالم من مشاهدته عبر قنوات مختلفة، وينادي هذا الدوري بشعارات جاذبة لأي إنسان كالطموح والتميّز والتنافسية العالية واللعب النظيف والإبداع، ويمكن لأي متابع أن يلحظ ذلك من خلال المهارات الفردية للاعبين وتصريحاتهم وخطط المدرّبين وفلسفاتهم وقرارات الحكّام كذلك، وإن لم يلحظ المشاهد فإن المعلّقين على المباريات يسعفونه سواء باللغتين العربية أم الإنجليزية، وليس واضحًا إن كان ذلك ضمن استراتيجية القوة الناعمة التي تتبّعها المملكة المتحدّة أم أن المعلّقين يتحدّثون من تلقاء أنفسهم تأثّرًا بالقوة الناعمة لكرة القدم الإنجليزية، فهم كثيرًا ما يرددون مثل هذه الكلمات الرنّانة التي ترفع من شأن الدوري الإنجليزي الممتاز مما ينعكس إيجابًا على صورة الإنجليز وثقافتهم وعقليتهم في تسيير حياتهم وشؤونهم.
يلتزم الدوري الإنجليزي الممتاز بالتنوع الإثني والعرقي ويركّز على ضم اللاعبين المحترفين من مختلف الجنسيات، و يرى الكاتب البريطاني روبرت ويندر في كتابه (القوة الناعمة: اللعبة الكبرى الجديدة) أن في ذلك رسالة تذكيرية بحقبة بريطانيا الاستعمارية وتأكيدًا على قدرتها للوصول إلى جميع أنحاء الأرض والتأثير إيجابًا على مختلف الشعوب وتطويرها وتعليمها ونقلها إلى مراحل أفضل، وفي تحليل مختلف تجد دراسات المعهد البريطاني بأن ذاك التنوّع يعكس مستوى التسامح الذي يتمتّع به الإنلجيز مما يسهم في تغيير الصورة السلبية المرسومة عنهم بأنهم عنصريون، كما يستغل الدوري قوة تأثيره وجماهيريته لنفي الفكرة المأخوذة عن هذا الشعب بأنه جامد وبارد المشاعر، فالدوري ينتصر لأوكرانيا في حربها مع روسيا، ويقف ضد العنصرية بكافة أشكالها، ويؤيّد المثليين، ويُلزم اللاعبين ليقفوا وقفات الصمت أو يجثوا على ركبهم حدادًا على رحيل أحدهم سواءً كانت شخصية مشهورة أم أحد الجماهير، سواءً اتفقنا أو اختلفنا مع هذه المبادرات وغاياتها وأجنداتها فإنها تبقى جزءٌ من القوة الناعمة لكرة القدم التي تستفيد منها المملكة المتّحدة للتأثير على الشعوب بمختلف ثقافاتها وإيديولوجياتها عبر دوريها الإنجليزي الممتاز.

كرة القدم لا تتحرك في الحدود الإنجليزية وحسب، بل هي اللعبة الشعبية ومعشوقة الجماهير في كافة أرجاء الأرض، تم صياغتها على مر السنين في صور عديدة لتصبح كما نشاهدها اليوم في دوريات محليّة وبطولات قاريّة وعالمية، وأُنشأ على إثرها واحدة من أهم وأقوى المنظمات العالمية ألا وهي الفيفا التي بفضلها تحوّلت كرة القدم من لعبة إلى وظيفة مهمّة لها قوانينها ويتم تعليمها أكاديميًا، ويحظى سوق اللاعبين المحترفين (الميركاتو) وأخباره بأهمية إعلامية وجماهيرية كبيرة، وعلى إثره تحدد بعض الشركات والعلامات التجارية الكبيرة أهدافها وخططها التسويقية، حتى أن أجندات البث التلفزيوني قد تتغير على إثر انتقال لاعبٍ ما من دوري محلي إلى آخر، كما أن العديد من المدن تعتمد في خططها الاستراتيجية والتطويرية على قرار التحاق لاعب أو مدرّب يحظى بجماهيرية أو شهرة عالمية إلى أحد أنديتها أملاً في أن يسهم وجودهم في تنشيطها سياحيًا وتجاريًا، وتؤثر الأندية وشعبيتها على العديد من القرارات الفردية بدءًا من السياحة مرورًا باختيار الوجهة الدراسية وانتهاءً بالعمل والاستثمار.

لا عجب أن تصبح هذه اللعبة التي وُجدت لإمتاع الطبقة العاملة عالمًا ممتعًا أيضًا للعديد من رجال الأعمال والسياسيين وصنّاع القرار؛ فقد وجدوا ضالتهم فيها، واستطاعوا من خلالها فرض سلطتهم على عدّة أصعدة فقد أصبحت ساحة لهم للإبداع والابتكار؛ فملاّك الأندية يتنافسون في بناء الملاعب الضخمة المُهيبة لتصبح مزارات سياحية وحاضنات لمختلف الفعاليات المهمّة، والحاصلون على حقوق البث يُبدعون في تصوير وإخراج المباريات وتنفيذ البرامج المصاحبة، والدول والمدن المستضيفة للبطولات العالمية تعمل بكل ما تستطيع حتى تثبت قدرتها القيادية على تنظيم وإدارة الأحداث العالمية الكبرى؛ فاستضافة كأس العالم بحد ذاته يعتبر نقطة تحوّل في تاريخ أي دولة؛ إذ تشير الدراسات إلى أن استضافة ألمانيا لكأس العالم عام 2006 محت صورتها التاريخية كونها دولة نازية، واستغل الشعب الألماني ذاك الحدث الضخم ليبيّن للشعوب الأخرى بأنه ودود ومضياف وطيب المعشر؛ لتصبح ألمانيا بعد ذلك واحدة من أهم الوجهات السياحية والتعليمية، وذات الفائدة تحققت مع جنوب أفريقيا 2010 وكذلك وروسيا 2018؛ بيد أن المؤثرات الأخرى حالت دون استمرار تلك الفوائد، فالقوة الناعمة لكرة القدم لا يمكن أن تعمل بمفردها؛ لذا من المؤمّل أن تحقق قطر مكاسب جمّة عبر استضافتها كأس العالم 2022 لتوافُر العديد من المعطيات التي تمكّنها من بلوغ الأهداف المنشودة.

هي ليست مجرّد تسعين دقيقة أو أكثر من المتعة والتشجيع وحرق الأعصاب، بل هي في نظر صنّاع القرار تسعون عامًا وأكثر من النجاح والرفعة والمكانة العالمية المرموقة التي قد تحظى بها أي دولة بفضل استثمارها الذكي في القوة الناعمة لكرة القدم؛ ففي الوقت الذي يفكّر فيه المشجّع العادي كيف وأين يشاهد مباراة كرة قدم، يستغل صنّاع القرار والسياسيون كل دقيقة لرسم التكتيكات ووضع الخطط وربما الألاعيب للاستفادة بأكبر قدر ممكن من تلك اللعبة الجميلة في تحقيق مآربهم وطموحاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية.

 

‫3 تعليقات

  1. مقال جميل وممتع .. ولكن انا من الأشخاص الذين ابتعدوا جزئيا عن كرة القدم بسبب الظلم الذي يحدث في الملاعب والفوضى الإدارية وعدم العدالة فيها وبالطبع سوء مستوى الحكام رغم تسخير التقنية لهم إلا أن المتعة قد تكون فقدت لهذه الأسباب..
    نعم أؤكد أن لها الشعبية الأولى في العالم وهي من أجمل الرياضات ولكنها تغيرت حتى بسبب الماديات التي تحكمت في حقوق النقل التلفزيوني وأصبحت للمقتدرين فقط ..

  2. شكرًا لك الزميل العزيز عادل… كرة القدم فلسفة حياة شاملة وكلٌ يستفيد منها وفق غاياته بدءًا من المتعة والترفيه وانتهاءً بالمصلحة السياسية.
    السياسة هي فن المصالح الممكنة، وكلّما كان هناك إمكانية لتحقيق هدف معين من أي شيء حتى وإن كان آيس كريم سيستثمر السياسيون فيها لخير أوطانهم، وذلك حق مشروع لأي دولة تبتغي الرفعة لبلادها وشعبها.

  3. كرة القدم هي أفيون الشعوب بالفعل وعلى وجه الخصوص مباريات الدوري الانجليزي.

    مقال جميل وممتع
    استاذة شيخة
    مع اني لست من هواة تسييس الرياضة ؛ على الرغم من تغلغل السياسة في كل ما يحيط بنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى