أصــداء منوعةثقافة ، أدب ، إصدارات

مـريـم !!..

الكاتـب/ سـالـم بن غـنّـام الجـعـفـري

 

مـريـم !!..

 

لأول مرة يرجع الى أوراق أبيه المبعثرة في ذلك الدولاب المسن .. لعل يجد صورتها التي تخيل أن في ظهرها سيجد ما يبحث عنه ..فقد أتعبته الأسفار  وأخلت جيوبه مما فيها ..كانت تكْن لهم التقدير والاحترام نظير معاملتهم لها المعاملة التي عُرفوا بها من طيبة وتواضع وحسن الخُلق .. فما كان منها إلا أنها أعطتهم صورتها وكتبت خلفها عنوانا ورقم هاتفها .. لم يتبقى إلا ورقات قليلة في أخر درج من الدولاب وها هي تضم بينها الصورة المنشودة .. وأخيرا .. قرأ .. الطبيبة ساندي بيجو .. الهند .. كيرلا .. منار .. رقم الهاتف الطويل الذي يبدأ 9900

لقد مضى على زواجهما أكثر من خمسة عشر سنة .. والبيت الكبير لا يسكنه إلا هما .. محمود ومريم .. تلك الزوجة الصالحة المتدينة .. ملئت البيت إيمانا وفرحا وزينته رضا .. ولكم كررت له هذا أمر الله فلم يكن يُنقص حياتهما إلا ضحكات طفل صغير فتكتمل سعادتهما .. محمود ما إن يسمع بطبيب متخصص إلا ورحل إليه .. وكان الجواب مشتركا بين كل الأطباء بأن الحالة سليمة ولا يوجد عارض يحول دون ذلك فكل شيء على ما يرام و أن المسألة مسألة وقت .. كم تمنى أن يسعد قلب هذه الإنسانة العظيمة .. وكم دعاء ربه في خفايا الليل بأن يمن عليه بولد يكون مقابل إخلاصها .. حبها .. صبرها .. 

في منتصف شهر أغسطس الماطر تنزل بهم طائرتهم العمانية في مطار ترافندرم بولاية كيرلا ليجد في استقباله .. الطبيبة ساندي ذات الساري الهندي المذهب بخيوطه الجميلة وقد تغيرت كثيرا .. شعرها الأبيض .. عكازها .. وعلى جانبيها أبنها) مورلي (وابنتها … عرفها قبل أن تنطق اسمه) مهمود (ولعل لبس مريم كان اللبس العربي الوحيد في تلك الرحلة .. كانت تعامل محمود منذ صغره مثل ابنها .. استغرب الكل عندما قبلها فوق رأسها وقارا كونها صديقة والديه .. فقد كان منزلها لصيقا لمنزلهم في بلدته ..  أسرع ابنيها في حمل الحقائب الى السيارة وبلغة تشبه العربية لحد كبير تحدثت معهم وتبادلوا أخبار الدار بعدما سافرت الى بلدها الهند .. وكانت الأسئلة الأولى عن حال والديه فاخبرها أنهما فارقا الحياة منذ سبع سنين .. بشيء من الحزن السريع رفعت كفيها الى السماء وتمتمت ثم مسحت وجهها مرددة (الله كريم).

ربما المسافة كانت كافية لتعرف أكثر عن أحداث السنين الماضية .. ومريم تناظر من نافذة السيارة الصغيرة من نوع (تاتا) معالم كيرلا الخضراء وشلا لات (كولوم) وأشجار المطاط والنارجيل والموز .. فكل شبر في ولاية كيرلا أخضر .. وتردد الثناء على نعم الله وشيئا من الاستغفار .. ها هي منار تقترب شيئا فشيئا .. بعد أن تناولوا وجبة الغداء في أحد المطاعم التي تقدم وجبات عربية في قرية (ألبي) ..

كيس الموز المقلي يعتبر كالمكسرات أثناء السفر هناك .. اتخذ محمود وضعية مختلفة ملتفتا الى الطبيبة العجوز .. شعرت أنه يريد أن يقول شيئاً جدّياً .. فقاطعته مباشرة .. (في غرفة في البيت من شأن أنته ومريم .. كلا م خلاص).

اقتربت السيارة من منزل محاط بحديقة خضراء رائعة .. تعلوها أشجار النارجيل والفافاي من جانب .. وشجيرات الموز من الجانب الأخر .. وساحة كبيرة من الورد المتنوعة .. أعطت البيت إطاراً جميلاً ترتاح له النفس عندما تراه وتشتم عبقه .. تكتمل اللوحة بلون البيت .. ذو الزخرفة البنفسجية .. 

كان في مقدمة المستقبلين كهل كبير السن بقميصه الأبيض ذي خيوط من الزري الفضي ، وإزاره الأبيض الطويل .. ضم كفيه ورفعها الى أعلى هازّاً رأسه .. كتقليد هندي لتحية الضيف .. مد محمود كلتا يديه مصافحا .. أولاد  (مولي) لبسوا الجديد فرحة بقدوم العرب الى منزلهم .. ارتسمت على وجه زوجة مولي وأطفاله ابتسامه جميلة تنبئ عن سرور عميق لحضورهما .. فقد روت لهما جدتهما الطبيبة حسن المعاملة وطيب العشرة التي وجدت في عُمان .. أغلق محمود الغرفة وأحضرت مريم ) سجادتها التي لا تفارقها ( من أحد الحقائب وأديا ما فاتهما من الصلاة .. في صبيحة اليوم التالي وعلى مائدة الطبيبة .. ساندي تناولوا الافطار .. هم الثلاثة فقط .. هكذا قررت العجوز .. لربما أرادت طرح تلك الاسئلة عمّا أتوا من أجله بشيء من التفصيل .. فكانت كل التفاصيل .. الاسئلة تتوالد في فيها .. فالخبرة التي اكتسبتها في الخارج وممارستها لتخصصها عند رجوعها الى بلادها كفيلة في استيضاح الكثير من الجزيئات الصغيرة حتى تلم بكل الموضوع .. وكانت هناك شيء من الخصوصية لـ (مريم) حبذت تسألها على انفراد ..

في يومهم الثالث اتجهوا الي العيادة وكان في انتظارهما كادرها الطبي برئاسة الدكتورة طبعا .. أجريت كافة الفحوص المطلوبة وبعد الاجتماع على النتائج .. والتشاور .. أرجأت الدكتورة الموضوع الى إفطار اليوم الثالث .. تحدثت إليهم ببصيص من الأمل شريطة مكوثهم شهرين هنا في كيرلا .. وتكون مريم تحت الملاحظة المستمرة بعد تناولها ما وُصف لها من علاج.

.. هَاتْف محمود إخوانه فيما قررته ساندي .. صديقة العائلة .. فبادروه بضرورة الموافقة والمكوث لعل الله يكتب لهما ما يأملان .. استأذن محمود الطبية في السماح له بالسكن في الفندق القريب منهم بعد شكرها على حسن الضيافة والاستقبال .. راجيا منها الموافقة .. مرت الأيام .. ومريم بين دعاء ودواء .. ليتها تسعد محمود .. وأن يرزقه الله منها ما تقر به عينه ويحمل اسمه من بعده .. فما وجدت منه إلا الوفاء والإخلاص والمعاملة الحسنة .. 

مر الشهر الأول بنتيجة سلبية فكان الاستغفار ديدنهما .. وكان محمود يقطع يوميا ثلاثة كيلومترات ليصل إلى المسجد فوق تلة مُنار الخضراء .. فقد اتفق مع إرشاد سائق مسلم يفهم العربية وبأجر أسبوعي بألف وخمسمائة روبية ويحمل معه كل اثنين وخميس بعض الفاكهة وشيئا من الطعام يتصدق بها .. ويمر أحيانا على محلات الملابس في السوق المحلي .. يُلبسها فقراء المسلمين هناك .. يشعر بدعائهم له ..

أصبح محمود معروفا بل محبوبا .. رغم انه لا يعرف أحداً عن سبب مكوثه هنا .. ولا يدرون ما يهدف من زيارته لبلدتهم .. اكتمل الشهر الثاني وحان موعد الفحص الأخير .. التوتر يرتسم على وجهها وقسماته تبيّن مدى خوفها .. يمرر محمود يده على كتفها يطمئنها بأنه رضا بقسمة ربه معها وسيعشان معا الى الأبد مهما كانت النتيجة .. نظرت إليه بعين دامعة .. ففهم كل الحروف التي ارادت أن تقول .. ثم أرسل قبلة الى جبهتها .. بعدها دخلت الى غرفة الفحص الاخير .. مضت الساعة تُبدل دقائقها بكسل شديد .. الوقت كان كافيا لمعرفة النتيجة .. لكن الطبيبة أعادت الفحص مرة أخرى .. وبتوتر شديد.

ها هي الساعتان قد انقضى أجلها بخروج الدكتورة ساندي من غرفة الفحص .. وقد أضيف الى وجهها خطين من دموع .. تمسك بيدها اليمنى عصاها وأخذت باليسرى ذراع محمود متجهة الى مكتبها الصغير ، جلست على الكرسي الطويل وأجلست محمود بجانبها .. احمرار عينيها ودموعها نبأت محمود بالخبر .. قائلا بلغة تفهمها العجوز (دكتورة ساندي ما في مشكلة .. كله من الله).

ردت عليه مباشرة : لا لا .. مريم هامل .. ح ا م ل .. مبروووووك .. تسمر محمود في مكانه .. ذهلت حتى كلماته .. تحيرت شفتاه بحروفها .. أحس بركبتيه أصابهما برود شديد .. تساقطت دموعه قبل سقوطه ساجد لله .. لم تكن مريم تعرف النتيجة .. أشار للطبيبة أن يرى مريم سريعا .. وجدها وحيدة .. وأنين يرسم خوفا لا شعوريا من النتيجة .. لكنها وجدت محمود أمامها بوجه قد بللته الدموع وبشفتين مرتعشتين .. ولكم صدمتها كلمته الوحيدة (مبروووووك) عانقها بحب .. فكان مشهد لا يحتوي إلا أنين الشكر والحمد ، وبكاء الفرح والسرور .. الكل ينتظر المحادثة الهاتفية المرتقبة بعد انقضاء الشهرين .. الرقم الطويل يظهر منذ الصباح على هاتف أخته الكبيرة .. صادف ذلك اليوم اجتماع من تبقى من الأسرة في مزرعة بيتهم الريفي القديم .. أشارت إليهم أن يلزموا الصمت .. انه محمود من الهند

 .. ألو ..

 .. ثم صمتت بابتسامة عريضة ودموع .. و صرخت .. (مريم حامل) .. تعانقوا .. قبلوا حتى الصغار .. (عامر) الاخ الصغير لمحمود .. أخذ مفتاح سيارته واتجه الى بيت أهل مريم ليجعل الفرح يملأ البيتين..

في أكتوبر غادرت الطائرة العمانية مطار ترافندرم مرة اخرى متجهه الى الوطن كاشفة عن بساط أخضر تتخلله أنهار (ألبي ومنار وكولوم) و هناك من بعيد في سيارة تاتا الصغيرة ايدي تلوح للطائرة .. هكذا احست العجوز الهندية أنها ردت الجميل لأسرته بعد فضل الله ..

بعد اربع ساعات ها هي تنزل بسلا م بمطار مسقط .. وعند معبر القادمين .. أطفال وورود وعائلة ابى أفرادها إلا أن يأتوا جميعا .. أقبل وجه محمود من البوابة .. لم تتمالك يُسرا إلا أن تملأ المكان بزغرودة طويلة ولا تأبه بالآخرين .. عربة الحقائب يدفعها محمود أمامه إلا حقيبة اليد مع مريم .. يُسرا بدعابة : (مريم هات الحقيبة فهي ثقيلة عليك) .. ثم قهقه الجميع ..

الشهور تُكبر ما في بطن (مريم) .. وبروح جميلة .. يردد لها مرارا .. أنا طباخك يا سيدتي .. ومرتب للسرير .. وأنا .. وأنا …. وحب يزين البيت ويملأه سعادة .. وساندي من هناك توجه .. تنصح .. تتابع .. بهاتفها النوكيا الهدية !.. أم مريم استأذنت محمود في الشهرين الأخيرين أن تكون بالقرب من مريم إن لم يكن يتسبب ذلك في ازعاجه .. محمود مقبلا رأس عمته .. يسعك قلبي وعيني قبل بيتي .. وانه الشرف لي ..

تشعر مريم بوخزات شديدة تنتابها منذ سنتين دون أن تبديها لمحمود .. فيكفيه ما كان يعانيه .. ازداد وجعها .. على الفور .. نقلها الى المشفى .. لم يكن الامر يستدعي كل الخوف الذي شعر به محمود .. لكن الاستشارية المتخصصة طلبت من محمود أن تكون مريم تحت الملاحظة لأيامها المتبقية .. فلم يبقى إلا القليل .. مريم يلزمها الراحة التامة والتغذية الصحية المقننة .. كون الذي تحمل به بكرها وهي في هذه السن ..

أم مريم ذات الوجه الأبيض المشرق كانت برفقتها .. واوصت محمود بإحضار مصحفها الكبير الذي اعتادت التلاوة منه يوميا .. وجه مريم الاكثر شبها بنور وجه أمها لا يختلف عنها إلا بتلك الشامة على خدها الايسر… تردد عند أمها حفظا مما تتلوه من كتاب الله ولكن الوخز يزداد شيئا فشيئا

 .. الامر الذي ألزم الأم بضغط زر المساعدة من الممرضات والطبيبة .. لم تتردد الطبية بعد أن تراءا لها تزامن علامات الولادة مع الوخزات الشديدة إلا أن تنقلها الى غرفة الولادة ..

رن هاتف محمود .. جاء هو وأفراد اسرته مسرعين .. مريم في غرفة العمليات .. الكل ينتظر .. الكل جالس إلا محمود .. ما أن تخرج ممرضة إلا سألها عن حال مريم .. الكل يطمئنه .. شعر الكل بشيء من الخوف بعد مرور خمس ساعات .. وأخيرا خرجت الممرضة لتخبره بالتوجه الى الغرفة الأخرى .. بجناح الولادة .. فكان أول من استقبله أم مريم والتي سُمِح لها بالدخول في غرفة العمليات .. تحمل بين يديها طفلة صغيرة جميلة ذات شامة على خدها الأيسر .. 

سرعان ما تهلل الفرح العظيم في وجه محمود .. يا هلا بالغالية بنت الغالية .. يا رب لك الحمد والشكر .. عمتي : أخبار مريم ؟ .. لم تتمالك العجوز نفسها .. سبقتها دموعها .. مريم .. مريم .. تعيش أنته .. صرخ صرخة عظيمة .. سمعها كل من كان موجود في أروقة المستشفى (مرييييييم).

ارجوكم وين مريم ؟! .. أبي أشوفها .. وين مريم ؟! ، وين مريم ؟! ممدّدة على سريرها بنفس الوجه الإيماني المنير .. عاااانق خدها..

يسر لها : مريم أرجوك لا تخليني .. أرجوك خذيني معك.. مستحيل .. العيش بدونك !!..

ام مريم : محمود .. هذا قضاء الله وقدره يا إبني .. أخذته بين ذراعيها .. ليخرج محمود بين ذراعيه طفلة تشبه مريم ..

ويدفع أمامه سريراً أبيض طويلاً !!..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى