أصداء وآراء

شكـراً صـديـقـي عـبـدالفـتـاح..

  الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي

شكـراً صـديـقـي عـبـدالفـتـاح..

حين فاض النيل الأسبوع الماضي فجرف الحجر واقتلع الشجر .. والتهم البشر .. تذكرت صديقي عبد الفتاح الذي هرب من السودان الفقير .. وترك العالم العربي الكبير !!.

هذه السطور في ذكرى صديقي عبدالفتاح الذي عاش معنا .. ثم هاجر إلى البعيد .

أرسلت هذا المقال قبل نشره إلى صديقي الأستاذ الكاتب الرائع حمود الطوقي لأعرف رأيه، وليضع  مقالي في ميزانه.

رغم يقيني بأن الأستاذ حمود من النوعية المتفاءلة جدا .. إنه من أولئك الذين يرفعون دائما أعلام  الأمل والتفاؤل وحب الحياة..

فقال لي :  مقالك جميل لكنه سوداوي جدا .. وهنا يكمن سر جماله !!.

لا بأس إذن .. أرجو أن تحتملوا بعضا من السوداوية .. فشيئا  من اللون الأسود وسط هذا البياض الناصع والنور الساطع الذي نتمرغ  فيه، سيضفي توازنا وإنسجاما وجمالا .. وبهاء على حياتنا.

دائما أهنىء نفسي وأكفائها على أنني تجاوزت عامي الخمسين دون إصابات عقلية أو أضرار قلبية أو عاهات نفسية.

دائما أسأل نفسي :

كيف استطعت أن أنتصر على علل الزمان وأمراضه.

كيف تمكنت من القفز فوق كل التناقضات و الصخور و  الحفر .. دون أن يتأثر جهازي العصبي أو ينكسر أو يتمزق.

كيف تمكن قلبي من امتصاص عاهات المكان دون أن يختل أو يتخاذل أو يسقط أو يتساقط.

فالشكر لله وحده أولاً وأخيراً الذي وهبني قلبا إسفنجياً يمتص الأمراض ولا يمرض.

قد لا يروق للكثيرين تقبيح الحياة وهجائها .. خاصة أولئك الذين عشقوا الحياة وعشقتهم .. وعانقتهم ورأفت بهم .. ودللتهم .. وغازلتهم .. وطبطبت على أكتافهم.!!

أنا أخاطب أولئك الذين قست عليهم الحياة وأوجعتهم .. وعبثت بهم .. وآلمتهم .. وحرمتهم من الهناء .. والنماء .. والهواء .. وخنقتهم درجة الموت والعذاب والفناء.

لقد أثبتت لي الحياة من  خلال علاقتي الطويلة معها، وإخفاقاتي العظيمة فيها .. بأنها  ليست شيئا نظيفاً طاهراً.

الحياة ليست كائناٍ طيباً صالحاً .. أبداً.

لذلك كلما استيقظت من النوم وفي نفسي شيء من الضيق والإحتقان .. والإختناق .. أضرب موعدا مع  مكان خال فسيح.

خال من البشر .. لأصرخ بعض الصرخات القوية، وأمنح حنجرتي وأحبالي الصوتية شيئا من الإنطلاق والتمدد.

فأحجز موعدي عاجلاً مع المكان المنشود .. وانطلق إليه فور فراغي من كل واجباتي البيتية وقيودي الوظيفية.

بمجرد أن أصل الى المكان المرغوب .. أصرخ  صرختين أو ثلاث أو أربع..

صرخات من تلك النوعية الطرزانية الصاخبة.

فأشعر بالإرتياح والإسترخاء والهدوء.

وينقلب مزاجي فجأة من السواد إلى  البياض .. والنشاط .. والإبتسام .. مصحوبا بدفقة من المرح والسرور.

هكذا منهجي  في التعامل مع  الحياة منذ سنوات طويلة .. إذا حاولت الحياة أن تخنقني بالقلق وتحقنني بالإضطراب .. وتصفعني باليأس والقنوط..

لقد تعلمت هذه الطريقة الصراخية الطرزانية من صديقي عبد الفتاح السوداني.

عشنا معا أربع سنوات كاملة..

ثم تركني فجأة  مهاجرا إلى كندا .. فقلت له .. ولماذا الهجرة يا عبد الفتاح ؟!

فقال لي  : “الحياة في العالم العربي مؤلمة يا صديقي”..

رحل عبد الفتاح إلى  كندا .. وعاش هناك أجمل سنوات عمره .. ومات ميتة جميلة هانئة قبل سبع سنوات  .

مات عبدالفتاح وهو نائم في فراشه .. وفي أحضان زوجته الكندية الشقراء ..

لا أعرف كيف مات صديقي عبدالفتاح .. كنت أظن بأن الذي يعيش في تلك الدول الجميلة الفاتنة  لا يموت بسرعة .. فتلك الدول تحقنك بالحياة وتبعث فيك الأمل والبقاء والأستمرار ..

لا أعرف سبب موت صديقي عبدالفتاح .. كان شابا في الثامنة والأربعين !!.

ربما مات من فرط السعادة .. فالكثير من السعادة لا يحتملها  القلب .. إنها تقتل كالوابل من الشقاء !!.

أو ربما أكمل كل أنفاسه المكتوبة في جبينه.

لكنه مات سعيداً كما عرفت.

لم يمت بائسا  في وطنه .. ولم يمت متعفنا في بيته .. ولم تدهسه سيارة في شارع مزدحم .. ولم يتحول جسده الى شريحة من البرجر .. ولم يجرفه فيضان وادي النيل كما جرف المئات من أهله وأخوته ومعارفه.

مات عبدالفتاح في شقة راقية مطلة على نهر جميل .. وأجمل عصافير الدنيا كانت تزقزق فوق رأسه.

آخر رسالة كتبها لي قبل وفاته بشهرين :

(عبدالله هنا الجنة يا صديقي .. أشعر بأنني في الجنة .. تعال شاركني جنتي يا صديقي).

فكتبت له : (عبد الفتاح الحبيب كم أتمنى أن اشاركك جنتك .. ولكن شجرتي جذورها عميقة في هذه الأرض .. إنها ضاربة في أعماق العمق .. لا أستطيع إقتلاعها .. لقد فات الأوان .. لقد إخترت أن أموت هنا في وطني الجميل هذا يا صديقي).

كنت ألجأ إلى صديقي عبدالفتاح حين أشعر بالغضب والقرف والحزن يقتحمان قلبي .. ويقصفان صدري.

كنا ننطلق أنا وهو إلى الأودية .. والمناطق المفتوحة .. فيقول لي :  هيا يا عبدالله  دعنا نصرخ .. بكل ما نملك من قوة.

فنصرخ في الأودية الشاسعة والوهاد السحيقة..

نصرخ ونصرخ ونصرخ حتى نتعب وتخر حناجرنا ميتة من الصراخ.

الصراخ يبدد الألم .. يزيل العذاب .. يكنس الوجع من الروح..

إذا غضبت أهرب بعيدا واصرخ بأعلى صوتك..

لا تخبر أحداً بما يحتدم في داخلك..

لا تطلع أحداً بما يغلي في أعماقك..

لا تثق في أحد أبداً..

فقط إذهب بعيدا واصرخ..

إذا شعرت بالإختناق والإنحباس إذهب بعيدا واصرخ بأعلى صوتك..

أسمع السماء صراخك، وأوصل إليها سخطك وغضبك..

إذا تكالبت عليك الهموم والغموم .. أصرخ..

عبدالفتاح السوداني هو من علمني مهارة “الصرخة”.

وهو من دربني عليها في الوديان والسهول حين تخنقني الدنيا .

ومنذ سنوات عديدة وأنا أحافظ على هذه الصرخة .. ملتزما بها في مواسم الجفاف .. وفي فصول  الهطول والمطر  .

أعتقد .. بل أنا متيقن لولا تلك الصرخة التي أواجه بها الحياة كل يوم لما بقيت صامدا .. واقفا .. صلبا حتى هذه اللحظة ..

لقد منعتني تلك الصرخة من التهور والإنفعال .. وحفظتني من التشظي والإنفجار  .

لقد وقفت تلك الصرخة سدا منيعا بيني وبين اقتحام عالم الجريمة .

أصبحت  الصرخة ثروتي الوحيدة ..

أضحت سلاحي الوحيد لمكافحة كل شياطيني .

باتت  درعي الحامي ضد كل وساوسي وعفاريتي.

لولاها لربما أكون اليوم في غرفة صغيرة مسيجة بأسلاك كهربائية في إحدى مستشفيات الأمراض العقلية .

أو ربما  في غرفة مظلمة في دار متهالكة لرعاية العجزة والمسنين والمخرفين.

فلك كل الشكر 

وعليك كل الرحمات أيها الصديق السوداني العزيز عبد الفتاح.

وكل الشكر لك أيتها “الصرخة”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى