
التعلم في زمن الذكاء الاصطناعي.. اكتشافٌ للذات وتحدياتٌ في المستقبل
أصـــداء /العُمانية
في ظل تزايد تأثير التقنية في مختلف مناحي الحياة، يقف الأطفال والناشئة اليوم أمام تجربة تعليمية غير تقليدية لم تعرفها الأجيال السابقة، فالتعليم في حقيقته في الوقت الراهن لم يعد يقتصر على تلقي المعلومات وحفظها، بل أصبح في سياق تفاعل مباشر مع أنظمة ذكية وخوارزميات قادرة على توقع احتياجات المتعلم والاستجابة لها قبل أن يشعر بها.
وعادة ما تمنح هذه الأدوات فرصًا ذات نطاقات واسعة لتنمية التفكير والإبداع لدى الأطفال والناشئة على وجه الخصوص، إذ تعكس قدرات العقل البشري، وفي الوقت نفسه تضع حدودًا للحرية والخيال، ما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة المعرفة ودور الإنسان في اكتسابها. وهنا يتحول التعليم إلى رحلة لاكتشاف الذات وبناء الشخصية، مع وجود تحديات نفسية ومعرفية، تعيد تعريف معنى أن يكون الإنسان متعلمًا في زمن تهيمن عليه الخوارزميات وتسيطر عليه التكنولوجيا بشكل كبير.
في هذا السياق يتحدث المهندس سعود بن عبدالله المعولي، مختص في الذكاء الاصطناعي، عن إمكانية الذكاء الاصطناعي في تغيير طريقة تعلم الأطفال والناشئة، وما إذا كان سيجعل التعلم مُعدًّا مسبقًا بحيث يقلل من قدرتهم على الاكتشاف والتفكير بأنفسهم، ويقول: يشهد العالم اليوم ثورة معرفية غير مسبوقة مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث تتغير أنماط التعليم وأساليبه بسرعة تضع الأطفال والناشئة أمام تجربة جديدة لم تعد تقتصر على التلقين وحفظ المعلومات، بل على التفاعل مع أدوات ذكية قادرة على فهم احتياجاتهم التعليمية بل والتنبؤ بها. وتصبح أدوات الذكاء الاصطناعي مرايا تعكس قدرات الفكر البشري، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات حول حدود الحرية والإبداع في العملية التعليمية.
وأشار إلى أن الذكاء الاصطناعي يتيح تصميم بيئات تعليمية أكثر تخصيصًا، إذ يمكن أن تساعد الخوارزميات في ابتكار ألعاب تعليمية أو منصات تفاعلية تركز على نقاط الضعف لدى كل طالب، وتقدم الشرح بأكثر من أسلوب ليتناسب مع خلفياتهم المختلفة. هذه الميزة تجعل التعليم أكثر فردية، وتفتح الباب أمام تجربة تعليمية تتجاوز القوالب التقليدية، حيث يكون الطالب محور العملية، وليس مجرد متلقٍ سلبي للمعلومة.
لكن في المقابل، تبرز مخاوف حقيقية من أن يؤدي الاعتماد المفرط على هذه الأدوات إلى جعل عملية التعلم “معدّة مسبقًا”، بحيث تحد من قدرة الناشئة على الاكتشاف بأنفسهم أو ممارسة التفكير النقدي الحر. وهنا يظهر التحدي الأكبر: كيف نوازن بين الاستفادة من الذكاء الاصطناعي كأداة داعمة وبين الحفاظ على دور الإنسان في بناء شخصية المتعلم وصقل ملكاته الفكرية.
وأكد أن المدرسة، في جوهرها، لم تكن يومًا مجرد مكان لاختبار الحفظ، بل فضاء لتجريب الأفكار وتنمية مهارات الحوار والإبداع. ومن هذا المنطلق، فإن إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يكون إضافة نوعية لاختصار الوقت والجهد وتسريع عملية التعلم، دون أن تحل محل الدور الأساسي للمعلم والبيئة الصفية. فالمعلم سيبقى عنصرًا حيويًا في توجيه الطلاب نحو التفكير العميق، وتعليمهم كيفية طرح الأسئلة وصياغة الإجابات بأنفسهم.
وأوضح أن المستقبل ليس في استبدال الإنسان بالخوارزمية، بل في إيجاد التكامل بين الطرفين، حيث يُسهم الذكاء الاصطناعي في توفير محتوى ذكي ووسائل تقييم دقيقة، فيما يظل المعلم والبيئة التعليمية مسؤولين عن ترسيخ القيم الإنسانية وتنمية روح الإبداع. فالتعليم في نهاية المطاف رحلة لاكتشاف الذات قبل أن يكون مجرد تقنية، والذكاء الاصطناعي ما هو إلا وسيلة لتسريع هذه الرحلة وتمكينها، لا لإلغائها.
أما خالد بن الصافي الحريبي، وهو مهتم بالذكاء الاصطناعي، فيتطرق إلى هذا الواقع وأدوات التعلّم المستقبلية بين الإلهام والتحديات، ويشير إلى أنه من اللافت أن كلمة “الخوارزميات” التي يقوم عليها الذكاء الاصطناعي اليوم تعود في أصلها إلى عالمٍ عربي مسلم هو محمد بن موسى الخوارزمي، الذي أسّس علم الجبر وأسّس المنهج الرياضي الذي غيّر مسار الحضارة الإنسانية. إن استحضار هذا الإرث يمنحنا شعورًا بأننا لسنا مجرد مستخدمين للتقنية، بل ورثة تاريخ من الإبداع العلمي قادر على تشكيل المستقبل.
ويضيف: في عالم يزداد فيه اعتماد الأطفال والناشئة على الأدوات الذكية، تبرز أسئلة جوهرية: هل سيصبح التعلّم مجرد إعادة ترتيب للمعلومات، أم سنستطيع أن نوظّف الذكاء الاصطناعي ليكون منصّة لإطلاق الخيال، وتعزيز التفكير النقدي، وتوسيع آفاق الابتكار؟ ويؤكد قائلًا: المخاطر قائمة، فالاعتماد المفرط على إجابات جاهزة قد يُضعف مهارة التساؤل، ويقلّص مساحة الخيال، ويعزّز العزلة الاجتماعية، لكن الأمل يكمن في أفضل الممارسات التعليمية التي تتبناها دول ومؤسسات رائدة حول العالم. على سبيل المثال، مبادرة iSchool في المنطقة العربية أثبتت أن تعليم الأطفال البرمجة والذكاء الاصطناعي منذ سن مبكرة يمكن أن يكون ممتعًا وملهمًا إذا ارتبط بالمشروعات الإبداعية والتفكير التصميمي. عالميًا، نرى مدارس في فنلندا وسنغافورة تدمج الذكاء الاصطناعي مع المناهج لتعزيز مهارات العمل الجماعي وحلّ المشكلات بدلًا من الاقتصار على الحفظ والتلقين.
ويشير إلى المستوى المحلي، فقد بدأت سلطنة عُمان خطوات مهمة في هذا الاتجاه، من خلال برامج وزارة التربية والتعليم والجامعات العُمانية التي تشجع على تعليم البرمجة والروبوتات والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى المبادرات الشبابية التي تحوّل التقنية إلى مساحة للابتكار وريادة الأعمال. هذه الجهود، إذا تكاملت، يمكن أن تصنع جيلًا قادرًا على استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للتميّز لا كبديل عن الإبداع الإنساني.
كما يؤكد قائلًا: مسؤوليتنا هي بناء بيئة تعليمية تجعل من الذكاء الاصطناعي مُحرّكًا للفضول لا مُثبّطًا له، وأداةً لابتكار الأفكار الجديدة لا مجرد ترتيبها. التعليم في زمن الخوارزميات يجب أن يظل رحلة إنسانية، توازن بين العقل والتقنية، بين المهارات الرقمية والقيم الإنسانية، ليظل أبناؤنا قادرين على أن يكونوا مبتكرين، لا مجرد متلقين.
أما الدكتور كمال الصباحي، وهو تقني ومهتم بشؤون الذكاء الاصطناعي، فيتحدث عن إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي مع الأطفال بطريقة تحمي خصوصيتهم وتعزز مهاراتهم، وكيف يمكن للسياسات والقوانين أن تمنع أن يتحول الطفل إلى “منتج رقمي”، مع التوقف عند حماية الخصوصية وتشجيع الاستقلال الفكري، ويقول: ينشأ أطفال اليوم في عالم محاط بالذكاء الاصطناعي، بدءًا من الألعاب الذكية التي تتفاعل مع أصواتهم، وصولًا إلى منصات التعلم التي توجه مسارهم التعليمي.
ويضيف: لقد أصبح وجود معلم خصوصي متاحًا على مدار الساعة لتقديم الدعم الفوري والدروس المخصصة واقعًا ملموسًا، إذ بدأت هذه التقنيات تُحدث ثورة في طرق التعلم، وتقدم حلولًا فعّالة من حيث التكلفة، خاصة في المجتمعات التي تفتقر إلى الموارد الكافية. إن جاذبية هذه الأدوات واضحة، فهي توفر تجارب تعليمية شيّقة ومخصصة لكل طفل، معززة بأساليب التعلم القائمة على الألعاب والتتبع الفوري للأداء، مما يجعل الدروس أكثر تفاعلية وكفاءة، ولكن مع هذه المزايا، تبرز مخاطر لا يمكننا تجاهلها.
ويشير إلى المخاطر في هذا السياق بقوله: من بين المخاطر ضعفُ مهارات التفكير العميق، وتراجع المهارات الأساسية، فبالنسبة للبالغين قد يبدو الذكاء الاصطناعي كقوة خارقة تعزز الإبداع والإنتاجية، لكنهم يمتلكون عقودًا من التطور الذهني الذي يمكنهم من التفكير النقدي والمثابرة لحلّ المشكلات المعقدة. أما الأطفال، فما تزال عقولهم في مرحلة تكوين هذه المهارات، حيث يتعلمون كيفية التركيز والمحاولة والتواصل وتجاوز الصعوبات. إذا سمحنا للذكاء الاصطناعي بالقيام بالكثير نيابة عنهم، فإننا نخاطر باختزال مسار تطورهم الفكري. لهذا السبب، نحن بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في جوهر التعليم، الذي هو أعمق من مجرد عملية نقل معرفي؛ إنه عملية متكاملة يتعلم فيها الطفل كيف يعيش مع الآخرين، ويكتشف ذاته، ويكتسب المرونة اللازمة لمواجهة عالم متغير. وهنا، يجب علينا إعادة تعريف دور المعلم، ليس كناقل للمحتوى، بل كموجِّه ومرشد يساعد الطلاب على التساؤل والتفكير، ويضمن أنهم يتعلمون مع الذكاء الاصطناعي، لا أن يكونوا مجرد متلقين سلبيين.
ويؤكد أنه مصدر قلق رئيس يتمثل في الخصوصية، حيث تجمع منصات الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من البيانات الحساسة عن الأطفال — كالأنماط السلوكية والمؤشرات العاطفية والأداء التعليمي — وغالبًا ما يتم ذلك دون موافقة واضحة أو ضمانات كافية. يتم تجاوز الخط الفاصل بين “المستخدم” و “المنتج الرقمي” عندما تُستخدم هذه البيانات أو تُخزَّن أو تُحوَّل إلى أداة لتحقيق الربح دون رقابة حقيقية، ومما يفاقم من خطورة هذا الوضع وجود فجوة حوكمة متنامية في تصميم هذه الأنظمة ونشرها وتنظيمها، فمعظم السياسات الحالية تركز على البالغين، متجاهلةً احتياجات نمو الأطفال والمخاطر الأخلاقية. نحن بحاجة إلى قوانين جديدة تحمي حقوق الطفل، وتعطي الأولوية للاستخدام الآمن والمحدود للبيانات، وتفرض الشفافية على الشركات المطوِّرة، بما في ذلك إجراء عمليات تدقيق مستقلة لأدواتها التعليمية.
ويبيّن الصباحي أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي كأداة تمكين قوية تعتمد بشكل أساسي على تطبيقه بحكمة، وهذا يعني أنْ لا نكتفي بالتعليم بواسطة الذكاء الاصطناعي، بل يجب أن نعلّم عنه أيضًا من خلال بناء الوعي الرقمي والأخلاقي والتفكير النقدي منذ سن مبكرة. ويبقى دور المعلمين أساسيًا كمرشدين وموجهين، يساعدون الطلاب على استخدام هذه الأدوات دون أن يفقدوا صوتهم أو استقلاليتهم أو خصوصيتهم. فالهدف النهائي ليس مجرد ابتكار تقنيات أذكى، بل تنشئة جيل من البشر أكثر قوة وعمقًا في التفكير في عالم يشكّله الذكاء الاصطناعي.
ويتحدث سعد بن ربيع العريمي، خبير أدوات المستقبل، عن الكيفية التي قد تحلّ بها أدوات الذكاء الاصطناعي محل التفاعل الإنساني في مجالات مثل التعليم والإرشاد النفسي، وعن تأثير هذا التحول على وعي الطفل بذاته وقدرته على فهم مشاعر الآخرين وبناء علاقاته الإنسانية مع من حوله، ويقول: يطرح الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم تساؤلات عميقة حول إمكانية أن يحلّ محل التفاعل الإنساني، خاصة في بيئات الصفوف الدراسية أو جلسات الإرشاد النفسي. فالآلة اليوم لم تعد مجرد أداة حسابية، بل أصبحت قادرة على تحليل لغة الطفل، تتبع تقدمه الدراسي، وحتى تقديم اقتراحات لحلّ مشكلاته.
ويطرح تساؤلًا عامًا مفاده: هل يمكن لهذه القدرات أن تحلّ محل الإنسان؟ ويقول: من الناحية العلمية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم دعمًا هائلًا في تخصيص عملية التعلم. على سبيل المثال، يستطيع النظام الذكي أن يتعرف على مستوى الطالب في الرياضيات أو اللغة العربية ويضبط الأنشطة وفق احتياجاته، فيشعر الطفل أن المنهج صُمم له وحده. هذا النوع من التخصيص يُسهم في رفع الدافعية ويُعزز الثقة بالذات. كذلك يمكن لبرمجيات المحادثة أو الروبوتات التعليمية أن توفر للطفل مساحة آمنة لطرح الأسئلة دون خوف من الحكم أو النقد.
إلا أن التفاعل الإنساني يتميز بشيء لا يمكن برمجته بسهولة مثل التعاطف. المعلم أو المرشد النفسي لا يقدم فقط معرفة أو نصيحة، بل يقرأ لغة الجسد، يتفهم الصمت، ويشعر بما وراء الكلمات. هذه الخبرات الإنسانية تصنع جسرًا من الثقة بين الطرفين، وهو جسر يصعب على الذكاء الاصطناعي وحده أن يبنيه.
ويضيف: إذا أصبح التفاعل مع الذكاء الاصطناعي هو البديل الأساسي، فإن وعي الطفل بالذات قد يتشكّل بطريقة “مؤتمتة”. قد يعرف الطفل نقاط قوته وضعفه بدقة، لكن قدرته على فهم مشاعر الآخرين قد تتراجع. فالمشاعر لا تُختصر في كلمات أو بيانات، بل تُختبر عبر المواقف اليومية: مشاركة الحزن، الاحتفال بالنجاح أو حتى التعلم من الخلافات الصغيرة.
ويؤكد: العلاقات الإنسانية ليست مجرد معلومات تتداول، بل خبرات وجدانية حيّة تُبنى عبر التفاعل والمشاركة والمواقف اليومية. ومع دخول الذكاء الاصطناعي بقوة في عالم التعليم، يقف الطفل أمام فرصة استثنائية؛ فمن جانب يمنحه هذا الذكاء أدوات مذهلة لفهم ذاته وتطوير مهاراته بسرعة لم يعرفها جيله من قبل، ومن جانب آخر قد يهدد اعتماده الكلّي عليه بضعف مهاراته الاجتماعية وقدرته على قراءة مشاعر الآخرين.
ويشير إلى أن التحدي ليس في رفض الذكاء الاصطناعي أو القلق من سيطرته، بل في احتضانه بوعي، وجعله شريكًا في التجربة التعليمية لا بديلاً عن القلب الإنساني للمعلم وولي الأمر. فالذكاء الاصطناعي أصبح حقيقة لا مجال للتراجع عنها، وأصبح جزءًا من بيئة الطفل الناشئ، لكن يبقى دورنا أن نوجّه استخدامه بما يحافظ على أصالة العلاقات الإنسانية، ويوازن بين قوة الخوارزميات ودفء الابتسامة، بين سرعة البيانات وعمق القدوة. وبهذا فقط يمكن أن نمنح أبناءنا مستقبلاً يجمع بين التقنية والإنسان، بين الذكاء الاصطناعي والوعي الحقيقي.