أصداء وآراء

ثـرثـرة فـوق الحصـيـر..

الكاتب/ عبدالله الفارسي

 

ثـرثـرة فـوق الحصـيـر..

 

(إذا صادف وأمطرت السماء لوزاً أو جوزاً .. فلا تنسى أن تفتح فمك)..

السـطـر الأول :

ربما لن تصدقوا ما سأسطره لكم هنا .. فهناك من الغرائب والعجائب ما يضحك .. وأحيانا يذرف الدمع من عينك من شدة الضحك ، فتدخلك عنوة في نطاق المقولة الشهيرة “شر البلية ما يضحك”!!..

أنا لا أعتبر نفسي من فئة التعساء..

ولا أصنف نفسي من جماعة النحساء   ..

كذلك لا أنتمي مطلقاً إلى طائفة السعداء..

ولكن حين أراقب ما يحدث معي أضطر أن أضحك .. وأُأَكد لنفسي بأنني ربما أكون من عباد الله غير المحظوظين..

لأن للمحظوظ علامات وإشارات يهتدىء بها .. تظهر له في طرقات الحياة .. تضيء له من بعيد .. ويصطدم بها في الأماكن والأزقة .. تضاحكه .. وتغازله .. وتدغدغه وتتبعه وتتمرغ فوق قدميه كجرو مطيع وأليف..

فالتوفيق في أمور الحياة .. ومصادفة علامات مضيئة  وإشارات خضراء منيرة .. وزهور بيضاء جميلة .. تجعل الإنسان يشعر بالتفاؤل .. ويستشعر الأمل .. ويتمتم بينه وبين نفسه كم أنا محظوظ في هذه الحياة..

كما أنه للنحاسة إشارات واضحة .. وعلامات ظاهرة .. يتعثر بها المنحوس طوال حياته .. ويصطدم بها خلال ليله .. وأثناء نهاره..

لذلك كان المثل المصري الشهير : (المنحوس منحوس ولو حطو على رأسه فانوس)..

كثير من الفوانيس والمصابيح التي وضعتها فوق رأسي لأجل أن تنير لي هذا الطريق المظلم وتزيل عني هذه الأحجار والأخشاب التي تعترض مسيري وتطمر تلك الحفر المتربصة بي .. ولكن للأسف لم تقدم لي تلك الفوانيس سوى ثقل الرأس والوجع والصداع ، ولم تهديني تلك المصابيح سوى مزيد من الظلام ومزيد من الحلكة والسواد..

فواصلت حياتي الباسلة ، أسقط من حفرة إلى حفرة..

وظللت طوال سيرتي المجيدة أتعثر وأتشقلب من صخرة إلى صخرة..

أظنكم سمعتم بالمثل الجميل الذي يقول :

أعطني حظاً وارمني في البحر..

المحظوظ لا يحتاج إلى مهارة في السباحة ولا شطارة في الطفو..

الحظ فقط يحقق له العجائب .. ويجلب له الغنائم .. ويوصله إلى بر السلام و الأمان..

لذلك أنا أهمس وأوسوس لنفسي طوال الوقت .. وأحيانا أصرخ بكل قوتي..

“كم  أنا منحوس  متعوس” !!..

والمذهل في قضية حظي العاثر أنني حتى في البطيخ لم أخلو  من النحاسة .. ولم  أنجو  من  الفشل والإخفاق والتعاسة..

لم يسبق لي منذ تعرفت على البطيخ .. وعرفني وعرفته واشتهاني واشتهيته .. لم يسبق لي أن اشتريت بطيخة لذيذة..

دائما أشترى البطيخ السيء .. دائماً أختار البطيخة ذات الطعم غير اللذيذ .. دائماً تتوجه عيني إلى البطيخة الماكرة .. وتنطلق أصابعي لتهبش البطيخة الردئية !!..

حتى زوجتي المسكينة الطيبة يئست مني .. وقالت أرجوك .. “لا تشتري لنا بطيخاً .. ولا تدخله في بيتنا .. لا نريد شيئا .. سنأكل البطيخ في الجنة” !!..

في إحدى المررات .. إشتريت بطيخة حمراء .. بعد أن عاينت بطنها .. وفحصتها .. و تأكدت من جمال لونها .. واحمرار داخلها..

فرحت بها أيما فرح .. وابتهجت بها أيما ابتهاج..

وأخذت أقذفها في الهواء وألتقطها بالأحضان..

وقلت لنفسي ها هو النحس قد أنجلى .. وها هو التعس قد انقضى وانتهى..

فحملت بطيختي الحبيبة أهرول بها  إلى داري البعيدة .. ووضعتها في ثلاجتي الجديدة..

وجلست أنتظرها حتى تبرد .. وتتحول إلى فاكهة إستوائية منعشة باردة شهية ولذيذة..

وبعد ساعة أو أقل .. حملت سكيني .. وأخرجت بطيختي..

وقَطّعْتُها أجزاء صغيرة وأشكالاً جميلة .. فبهرني لونها .. وسال لعابي من جمالها !!..

قَطّعْتُها .. وناديت على  عائلتي..

“هَلُم أيها الأحبة .. بطيخة باردة .. لذيذة”..

فتكدسنا حولها تكدس الفقراء حول صحنهم .. واجتمعنا عليها اجتماع الجياع على قصعتهم..

يالها من مناسبة..

لأول مرة في حياتي أحظى ببطيخة كبيرة سمينة .. باطنها حمراء .. فاقع لونها تسر الناظرين وتبهج الجالسين..

ولكن .. كما قلت لكم المتعوس متعوس ولو حطوا على رأسه فانوس !!..

لقد كانت بطيخة سيئة .. تحمل مرارة .. ولا تجود بسكر..

لقد كانت جميلة المنظر .. سيئة المخبر..

كانت كخضراء الدمن .. كانت .. كالمرأة الجميلة سيئة الخلق قبيحة الطباع !!..

كانت كالمنافق المراوغ .. حلو الوجه طيب اللسان .. خبيث القلب أسود الفؤاد !!..

ترك الجميع “بطيختي” وانسحبوا من أمامها .. فجمعتها في كيسها .. ورميتها من فوري !!..

كم أنت قاس علي أيها البطيخ !!..

السـطـر الثـانـي :

لا أدري لماذا تعرفني الإشارة الحمراء وتحترمني كثيراً .. وتعشقني عشقاً عجيباً !!..

لا أتذكر منذ نعومة أظفاري .. ومنذ بدأت أتعلم ركوب السيارة .. وربط الحزام ، ومعرفة المواقف ، وتمييز الخطوط والمسارات ، بأنني صادفت إشارة خضراء أمامي !!..

دائماً تستقبلني الإشارة الحمراء في كل طرقاتي .. ضاحكة مستبشرة في وجهي .. تطلب مني التوقف والتريث ..  والسكون .. والتأخر والإنتظار..

وكم مرة ومرات حين أرى الإشارة الخضراء من بعيد ..  أحاول الجري إليها مسرعاً .. والهرولة لها لاهثاً..

ولكن لحظة الإقتراب منها يختفي اللون الأخضر  الجميل  .. فتحضنني الإشارة الحمراء .. وتوقف عجلاتي .. وتكبح جماحي..

إنها علاقة غريبة عجيبة لا يمكن وصفها .. أو رسمها .. أو تصويرها..

كم أتمنى ألّا أقف مرةً واحدةً عند الإشارات..

كم أشتهي أن تستقبلني الإشارة الخضراء .. قبل أن أفرمل عجلات سيارتي..

كم أتمنى أن تفتح أمامي الإشارة الخضراء .. وتقول لي لا تقف .. إستمر وواصل .. فطريقك أخضر .. ودربك سالك .. وحياتك أجمل !!..

ومازلت حتى اللحظة .. أعتقد بأن الإشارة الحمراء .. هي شكل من أشكال الحظ العاثر في الحياة .. وربما تكون رمزاً من رموز التعاسة ، وعلامة من علامة النحاسة !!..

ولكني مع ذلك متفائل بأن البطيخ اللذيذ المعبأ بطعم السكر .. ربما سيأتي في زمنه المحدد .. ووقته المكتوب..

يمكن الإستغناء عنه في هذه الحياة الزائفة..

ويمكن إستبداله بفاكهة أخرى أقل لذة .. تحوي بعضاً من السكر .. وشيئا من الحلاوة..

والإشارات الخضراء .. ربما تنتظرني في غير هذا العالم .. وفي غير  هذا الزمن..

ربما ستأتي الإشارات الخضراء في وقتها المناسب  … 

ربما  ستضيء لي  في اللحظة  الحاسمة .. والدقيقة  الفاصلة !!..

الآن .. يمكنني الوقوف وإنتظار الإشارات الحمراء المزعجة في هذه الحياة دون مرارة ودون أدنى إحساس بالفوضى أو شعور بالعبثية .. نعم يمكنني تحملها واحتمالها ، لأن هذا  الوقت بلا شك سيمضي .. وهذا  العمر حتما  سينتهي..

السـطـر الـثـالـث :

حين تعرض عليك الحياة  أكثر  من خيار وتمنحك أكثر من فرصة .. ولكنك تأبى إلا اختيار الإختيار الأسوأ .. والسقوط على الفرصة الأسوأ..

حين تختار التخصص الأسوأ 

و تختار الوظيفة الأسوأ 

و تختار مكان السكن الأسوأ .

وحين تختار أن تعيش في  المجتمع الأسوأ 

وحين تختار الصديق الأسوأ 

وتختار الطريق الخطأ وتسلك المسار الأسوأ  ..

هنا يبرز السؤال العميق : من هو المسؤول عن كل فشلك وسقوطك  .. وأوجاعك !!..

كان لدي جار قديم .. أحمق عظيم .. بليد كبير وجاهل أصيل .. إذا طلبت منه أن يصف لك القمر في ثلاث كلمات .. فلن يستطيع الوصف ولن يتمكن من كتابة الكلمات الثلاث بشكل إملائي صحيح .. وإذا سألته ماهو الشكل الهندسي الذي له أربعة أضلاع متساوية لفغر فاه كضب صحراوي مريض..

 كان يعمل في شركة بناء صغيرة ، ولكنه كان كأغلب الفاشلين والحمقى المحظوظين الذين نجحوا في الحياة وارتفعوا إرتفاعاً مهولاً ، وأصبح يشار إليهم بالبنان ، وأصبحت أسماؤهم لا تنطق إلإ بعد مضمضمة الأفواه بالماء والزعفران..

كنت أصطحبه معي حين أنوي شراء البطيخ .. كان لا يضع يده إلا على البطيخة الأجمل والألذ والأطيب !!..

كنت أستعين به حين أنوي شراء سيارة مستعملة أو أجهزة قديمة ..

كانت عينيه لا تخطيء هدفاً ، ويديه لا تلمس شيئا سيّئا أبداً !!..

هل الحظ في رؤوس الأصابع ؟؟

هل النجاح في بطون الأيادي ؟؟

هل التوفيق في أطراف الأظافر ؟؟

قرر جاري فجأة الإنتقال إلى مسقط..

فسألته : وماذا هناك في مسقط ؟؟!!.

فقال لي بكل ثقة : هناك حظي ينتظرني.

وكأنه كان متأكداً بأن الحظ يخبىء له حياة أخرى ، وضرب موعدا معه في مسقط !!..

إنتقل إلى مسقط ..

وانقطع تواصلنا وماتت علاقتنا وانتقلت إلى الرفيق الأعلى..

بعد سنوات إلتقيته ذات صدفة قبل هذه المصيبة الكورونية التي حلت بهذا  الكوكب الفاسد..

تصادفنا في موقف سيارات ..

كنت واقفا ، وفجأة وقفت بجانبي سيارة عجيبة فخمة فاخرة !!..

اذهلتني .. فإذا بجاري القديم  يترجل منها كأنه إمبراطور عثماني !!..

لم تغيره السنوات ، ولم تزده الأيام سوى بلادة ووقاحة وحمقاً !!..

ولكنه صدمني حين قال لي بأنه حاليا يعمل في شركة كبيرة وفي وظيفة مرموقة وبراتب خيالي !! حقيقة صعقني .. 

قلت له هذا الراتب لا يأخذه أكبر جراح قلب وشرايين في الوطن العربي الكبير .. وأنت تأخذ هذا الراتب بكل سهولة .. أي سخف هذا ؟؟!!..

ما هي طبيعة عملك في هذه الشركة العظيمة أيها العبقري ؟؟!! خبير حماقات أم  أخصائي سخافات ؟؟!!..

فغضب مني وكاد أن يبصق في وجهي .. وركب سيارته الفارهة وعفرني بالتراب والغبار والحصى !!..

السـطـر الـرابـع :

قالت لي أمي يوماً : مصيبة لو قرع الحظ بابك وكنت خارج المنزل !!..

رحمك الله يا أمي..

المصيبة يا أمي أن “الحظ” حين قرع بابي كنت نائماً .. مستغرقاً في النوم .. كنت أحلم بأنني أحضنه و أقبل جبهته !!..

السـطـر الأخيـر  :

مازلت محظوظاً جداً مقارنة بحال الشاعر الذي وصف حظه قائلاً :

إن حظّي كدقيق بين شوك نثروه .. ثم قالوا لحفاة يوم ريح إجمعوه.

صعب الأمر عليهم فقلت ياقومي أتركوه .. إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه ؟؟!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى