أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

ولا تجعل مصيبتنا في عُمانيتنا..

شـيـخـة الـمـحـروقـيـة

 

ولا تجعل مصيبتنا في عُمانيتنا..

 

إن الأصيل لا يرفع من شأنه مدحٌ ولا يُنزل من قدره قدح؛ فمن يبتهج فرحًا وفخرًا بعبارات الثناء وتستفزه بسهولة كلمات الذم والهجاء ليراجع حساباته، ويبحث في حقيقة جذوره، أو عليه أن يعيد تقييم نفسه، فلربما أغراه طيب الأصل والتاريخ وانشغل عن تطوير حاضره واكتفى بإنجازات أجداده، ناسيًا أن الفتى الجدير بالاحترام من قال للكون ها أنا ذا وليس من تغنّى بأمجاد آبائه فاثّاقلت خطواته نحو المستقبل وتكاسل وتخاذل ولم يسعَ “للبناء أفضل مما بنوا والإبداع أفضل مما أبدعوا” (١).

في بلادي الحبيبة عمان نعيش حالة من الإغراق في الماضي إلى الحد الذي كان الآخرون يستفزوننا بسهولة بالغة عندما كانوا ينسبون بعضًا من تراثنا لهويتهم، ثم جاء النقيض الذي يُثني على إرثنا وحضارتنا وثقافتنا؛ فشقّت ابتسامات الفرح وجوهنا لأن شخصيات خليجية وعربية معروفة ومؤثرة سلّطت الضوء على التسامح الديني والتعايش بين الأطياف والأعراق المختلفة في عُمان، فركب تلك الموجة الكثيرون ممن أعجبتهم حالة السعادة الغامرة التي اعتمرت قلوب العمانيين المبتهجين بالمدح والثناء على ما يتميزون به دون بقية الشعوب العربية الإسلامية، ولا أشكك في نوايا المادحين كما لا ألومهم على انبهارهم الكبير بالتعايش الجميل الذي نحظى به، ولكنّي أعتب على بعض أبناء عمان الذين ظهروا كالمتفاجئين من تلك المعلومة لكأنهم يتعرّفون على أنفسهم لأول مرّة، كنّا لسنوات نعيش مع بعضنا دون أن تخالج صدورنا فكرة الاختلاف وذلك بفضل السياسة الحكيمة لمولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، فذابت الأطياف الدينية والثقافية في بعضها، كنا نعيش ولم نكن نتعايش؛ لأن فكرة الاختلاف ببساطة لم تكن واردةً في قاموس حياتنا اليومية حتى جاء الآخرون فأنعشوها، وأصبحنا نرددها حتى غرقنا في فكرتها الجميلة الناعمة، دون أن نشعر انقلب ذاك التسامح الذي نعتز ونتفاخر به كعمانيين إلى تنابزٍ وتراشق؛ لأن فكرة الاختلاف كبرت ونمت وبرزت على السطح بتكرار فكرة التعايش، وبدأ البعض منّا ينفخ في نار الفتنة بين الطوائف والمذاهب والقبائل وحتى على مستوى المناطق وأشعل فتيل التنافس بين المختلفين أيّهم أحسن أصلاً وفعلاً وقولاً.

نفرح كثيرًا إذا ما عدد الآخرون مزايانا الطيبة كالكرم وحسن الضيافة والملتقى، بل وأصبحنا في فترة من الفترات موضع سخرية لأننا نبالغ في فرحتنا إذا ما عبّر أحدهم عن محبته وإعجابه بنا، إلى أن جاءت هذه السخرية مبطّنة وغير مباشرة من قبل قناة الجزيرة التي أنتجت فيلمًا بعنوان “ساحل عُمان”، لعمري أن العنوان بحد ذاته كان تلاعبًا واضحًا بتاريخنا الذي استخدمته القناة لخدمة أجنداتها السياسية، وكم كان مثيرًا للشفقة تهليلُ العمانيين وإجلالهم شكرًا وتقديرًا بما ورد في ذلك الفيلم واعتباره اعترافًا بالامبراطورية العمانية.

ألهذا الحد كنّا نشكك في عِظَم تاريخنا الذي ظللنا نتغنّى به طوال ٥٠ عامًا وأكثر ؟ أكان الاعتزاز بثقل الجذور وأصالة الإرث مجرد شعار يتردد على الألسنة ؟ وهل اعتراف جزيرة صغيرة بحضارة دولة عظمى يعتبر شهادة ؟ لقد بلغت ثقة المتنبي بنفسه أن اعتبر مذمته من ناقص شهادةً بكماله، فما بال شعبٍ أصيلٍ يمتلك إرثًا عريقًا وماضيًا تليدًا يفتقد تلك الثقة التي تثقل وزنه على الأرض فلا يهزّ كيانه مدح أو ذم ؟ ما بال شعبٍ أبيٍّ يستجدي شهادات اعتراف بمكانته وكأنه يعيش حالة من إنكار الوجود ؟ ما بال شعبٍ عزيز النفس عظيم المجد يقبل أن يتم التلاعب به ويرضى بأن تكون هويته لعبة في أيدي المرتزقة ؟ ما بال شعبٍ أصبح مهووساً فجأة بفكرة الترويج له وتعريف العالم به؛ فغدا يتمسك بتلابيب كلّ من ذكره في تغريدة أو أشار إليه في مقال وكلمة؟.

شخصيات على مواقع التواصل الاجتماعي بين عشية وضحاها أصبح لها شأن كبير بيننا لأنها “تروّج” للسلطنة حسب تعبير متابعيهم ومحبيهم، وابتعد البعض إلى وصفهم بأنهم يحملون الوطن على ظهورهم لأنهم عرّفوا العالم بعُمان، ومهما بلغت الوسيلة من الهزل والسخف والحماقة وسوء الخلق بما يكفي للحط من شأن الشخصية العمانية فإن أولئك المشاهير –حسب رأي الكثير- يقومون وبشكل فردي وأحيانًا “قردي” عبر هواتفهم بـ “الترويج لعُمان”، ويا لها من غاية؛ فبسببها تم تكريم العديد من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي -عمانيين وغير عمانيين– على مستوى حكومي وخاص، وحظي العديد منهم بمعاملة الشخصيات الهامّة في البلاد، وتلقّوا دعوات لحضور مناسبات وطنية كبرى لأنهم “يروّجون لعُمان”، وبلغ الهوس بتعريف العالم من هي عُمان إلى تبذير خيرات البلاد في عديد المرّات عبر تنظيم فعاليات ومناسبات وبرامج عالمية، واستغلّها البعض في مشاريع الفساد باعتبارها غاية ومهمة وطنية، غافلين أو متغافلين عن أن وحدها المنجزات على أرض الواقع من يستطيع التحدّث بصوت عالٍ يتجاوز حدود الزمان والمكان ويبلغ صداه مشارق الأرض ومغاربها لتُعرّف العالم بالأوطان.

كم هو مؤسف أن تكون مصيبتنا في هُويتنا العمانية، فأن تكون عُمانيًا يعني أن تكون رزينًا حكيمًا متّزنًا ملكيًا تهز بخطواتك الثقيلة أركان الأرض بثقل التاريخ والحضارة والأصالة التي من شأنها أن تحفظ الهيبة والقيم وتنير البصيرة وتُبلج الرشد ليميز الخبيث من الطيب من القول والفعل والبشر، فلا يرفعنا مديح كائنٍ من كان ولا يهزّ فينا شعرةً ذمُه وهجاؤه، ولا نرفع قدر كائنٍ من كان لمجرّد أنه ذكر اسم عُمان في عروضه وأفلامه؛ بيد أن ما يبديه بعض العمانيين اليوم من فرح وسرور حينما يُمدحون، وتصفيقهم وتبعيتهم وتأييدهم لكل من يتحدّث عن عُمانهم بخير، وانجرافهم مع كل ما يُثار حول السلطنة سواء بالسلب أو الإيجاب، وتكشّفهم أمام الملأ بأنهم سهلٌ التلاعب بهم والتأثير عليهم وإخراجهم من ثوب الأدب والسمت، إن ما يبدونه من ردود أفعال تجعلنا نقف وقفة جادّة مع مبادئ المواطنة لدينا ونُعيد تعريف “عُمانيتنا” التي اكتفينا بالاعتزاز بها عوضًا عن تعزيزها وتأكيدها، علينا أن نتدارك الوقت ونلحق ركب الإنجازات الواقعية حتى لا تصبح هذه الهويّة الكريمة العظيمة سببًا في تأخّرنا ولا تغدو نقطة ضعفنا وهي التي كانت ولا زالت الأساس الذي نبني عليه وجودنا وحضارتنا ورأس المال الذي نُقيم عليه عزتنا ومكانتنا بين الأمم.

هوامش :

من كلمة للمغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- حول التراث والتاريخ العماني عام ١٩٨٥م.

‫2 تعليقات

  1. شكرًا لك دكتور سلمان… عُمان عظيمة بتاريخها وصنيع رجالها ويجب أن تستمر هذه العظمة والعزة والإباء وعلينا أن نعرف وندرك كيف نستثمر رأس مالنا الثقافي حتى نحفظ مكانتنا بين الأمم.. حفظ الله هذا الوطن الغالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى