أصداء وآراءبأقلام الكُتّاب

قـلـوب مـن حـجـر !!..

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي

 

قـلـوب مـن حـجـر !!..

 

ذات عام بعيد سقط والدي مريضا فالتصق طريحا في الفراش .. فحملته إلى المستشفى هو وفراشه وشراشفه لم أستطع تخليصه منها فقد كان يرتجف من الحمى كصارية علم في يوم عاصف  ..

فحص الطبيب والدي والذي كان يتلوى أمامنا من شدة عضات الحمى والتي كانت تعضه بأنيابها في كل جزء من جسده ..

قرر الطبيب بقاء والدي في المستشفى لعدة أيام حتى تهدأ هذه العاصفة الملتهبة التي تعصف بجسده ..

حُمِلَ والدي إلى جناح التنويم .. ونمت معه تلك الليلة وفي الصباح جاءت أختي وأخي للجلوس برفقته ..

قسمنا أوقاتنا للجلوس مع والدنا ..

قررت النوم مع والدي كل ليلة وأعفيت اخي وأختي من المناوبة الليلية في المستشفى ..

كنت أستمتع بهدوء المستشفى أثناء الليل وحين يرتفع أنين المرضى كنت أضع قطنا في أذني الاثنتين واغمس عقلي في “مجلة العربي” التي كانت ترافقني كل ليلة وأحيانا اصطحب كتابا أو رواية .

ظل والدي في المستشفى أكثر من أسبوعين ..

وخلال تلك الفترة تعرفت على جميع المرضى والممرضات الهنديات لدرجة أن بعض المرضى اعتقد بأنني ضابط إداري ليلي جديد تم تعيينه بالمستشفى.

في الغرفة المجاورة للغرفة التي يرقد فيها والدي كان هناك رجلا سبعيني كان بعض الأحيان يناديني لأساعده في الوصول إلى الحمام .. فكنت أسنده وأرافقه الى دورة المياة وأنتظره حتى ينتهي من قضاء حاجته ثم أسنده عائدا به إلى سريره .. وبعض المرات كان يطلب مني أن احضر له قهوة بأي طريقة ومن أي مكان .

فأركض في كل أجنحة المستشفى باحثا عن القهوة وأحضرها له فيفرح برؤيتها  كفرح طفل بهدية ثمينة .

كان ينظر إلي بعين الرضى والبهجة .. رغم الألم الشديد الذي يعانيه إلإ أنه حين يراني كان يقتحمه النشاط فيبتسم وتتورد وجنتيه ويشع وجهه ضياء وتلمع عينه سكونا ومرح ..

في إحدى الليالي وحين نام والدي بعد أن أخذ جرعة دواءه المسائية الأخيرة مررت على الغرفة المجاورة لأطمئن على ذلك الرجل فوجدته يبكي وينشج بالبكاء   وحين وقعت عينه على عيني مسح دموعه بكمه وقال لي  : تعال يا عبدالله .. إجلس بجانبي ..

فقلت له : لماذا تبكي يا عمي ؟  هل الألم شديد ؟؟ هل أحضر لك الطبيب ؟؟

فقال لي : ليس ألم الجسد الشديد  ما يبكيني يا أبني وإنما هو ألم الروح ووجع القلب .

فاخبرني قصته العجيبة الحزينة .

قال لي : لم أرى أولادي منذ سبع سنوات لا يزورنني ولا يصلونني ..

وقد أرسلت لهم أكثر من رسالة بأنني اشتهي رؤيتهم واتوق إلى عناقهم قبل أن أموت .. ثم أخذ يبكي وينشج حتى اخضلت لحيته وابتل صدر فميصه فحضنني ليخفي دموعه ويكتم صوته عن أسماع الآخرين .

لم أكن أعلم بان هذا الرجل المسكين له أبناء فطوال الأسبوعين الذين قضيتهما بالمستشفى اعتقدت إعتقادا جازما بأن الرجل لا أبناء له ولا زوجة ولا أسرة لأنني لم أصادف معه أحدا طوال الخمسة عشر يوما الماضية سوى مرة واحدة رأيت معه ثلاثة من الرجال في مرحلة عمره فعرفت بأنهم جيرانه ..

والآن يصدمني ويكسر جدار قلبي الهش ويمزق نياط فؤادي الرقيقة حين قال لي بأن لديه أربعة من الأبناء أربعة ذكور وأبنة واحدة وكلهم متزوجون .. وقد أهملوه ولم  يأتِ أحد منهم  لزيارته منذ سنوات .

يا إلهي .. يا لها من قصة ويا لها من مصيبة .

قال لي الرجل بأنه لم يفعل شيئا سوى أنه قرر الزواج من زوجة أخرى بسبب سوء معاملة زوجته له  وسلاطة  لسانها وقبح عشرتها قبل خمسة عشر عاما فحاربته زوجته وألبت أبناءها عليه وزرعت فيهم الكراهية السوداء وغرست الحقد القاتم في صدورهم على والدهم  رغم أنه ترك لهم المنزل وقام بالنفقة عليهم حتى كبرت رؤوسهم وطالت رقابهم وغلظت شنباتهم .

يقول : الآن مضت ستة عشر سنة وقد توفيت زوجتي الثانية منذ سنتين بسبب السرطان. 

 كانوا يزورونني مرة واحدة فقط  في كل  عيد  .. ومنذ سبع سنوات انقطعوا عن زيارتي نهائيا .

فتوقف عن الكلام وبدأ بالشهيق المختلط بالدموع الممزوج بالحسرة واللوعة والأنين  .. فنطق جملته المؤلمة الموجعة وقذفها في صدري الضعيف : (كل ما اتمناه الآن هو رؤيتهم وعناقهم قبل أن أموت، أشعر بدنو أجلي وقرب ساعة رحيلي) .

نظر إلي بعينين دامعتين لامعتين كانعكاس ضوء قمر على بحر نائم ساكن .

وكانت شفتاه ترتعشان ارتعاشة رمادية مريرة .

يا إلهي ..

كان منظرا مفجعا حقنني بحقنة مركزة من الحزن وأمطرني بسحابة كثيفة من الألم .

فقلت له : لا بأس عليك يا عمي ستعود إلى بيتك وستجتمع بأولادك وستشبع من رؤيتهم وعناقهم ؛  فوقع على صدري وأخذ يبكي كطفل جائع يتيم .

*****

لم أنم تلك الليلة بطولها قضيتها سارحا متفكرا مقهورا ساخطا مفجوعا :  هل يعقل بأن يقطع الأبن أباه ويعقه بهذه الطريقة المخزية القاسية ؟؟.

مهما فعل الأب يظل أبا له مكانة عظيمة في أركان القلب ويتبوأ قطعة أثيرة  فسيحة في أروقة الروح .

*****

في الصباح ذهبت أبحث عن أكبر أبنائه لأخبره بقصة والده ورغبته في رؤيتهم .

فلم أعثر عليه في منطقتهم السكنية فقال لي أحدهم بأنه يصلي الظهر يوميا في المسجد الفلاني ..

ذهبت لقضاء بعض شؤوني وقبل أذان الظهر كنت أول الداخلين في المسجد المذكور .

عرفت الرجل من الوهلة الأولى وفور دخوله المسجد فملامح وجهه كبيرة الشبه بينه وبين والده .. إنه نسخة من والده ذاك المفجوع الموجوع المتمدد على سرير أبيض بللته دموع القهر .

سلمت عليه وهمست في أذنه : (بعد الصلاة لا تذهب أريد محادثتك في موضوع هام) .

انتهت الصلاة وخرج جميع المصلين .. وجلست انتظر الرجل وهو يكمل ركعاته وسجداته الطويلة متعجبا من خضوعه وخشوعه ومندهشا من تبتله وسكونه أمام خالقه ..!!

نهض وسلم علي ..

فعرفته بنفسي ثم أخبرته القصة، وأن والده راقد في المستشفى منذ أيام وأنه يحن إليكم ويتلهف للقائكم ورؤيتكم ..

فامتعض وجهه وتغير لونه حتى أصبح كالحا كصخرة يعلوها الرماد ، وقال : ألم يمت بعد ؟؟!!..

صدمني رده وكأنه صفعني بكف على وجهي وكدت على وشك أن أبصق في وجهه لولا أنني تداركت نفسي وانتبهت بأنني داخل بيت من بيوت الله ..

فقلت له :

“اتق الله يا رجل .. هذا والدك؛ سبب وجودك .. أنظر إلى وجهك كأنك نسخة ثانية منه .

من أين لك هذا الوجه الجميل وهذه الملامح الناصعة من أين أحضرتها .. من وهبك إياها .

والدكم مريض وربما يحتضر الآن فهذه فرصتكم الأخيرة لوداعه وعناقه قبل أن يلاقي ربه ؛ فلربما لن تلتقيا في الآخرة أبداً ..

فصمت كالجدار وسكت كالحجر .

فتركته و خرجت من المسجد وأنا ألعن هذا العالم السافل وما فيه .

*****

في ذات اليوم وفي تلك الليلة قضيت أكثر من ساعتين مع ذلك الرجل المسكين أدردش معه في مسائل كثيرة فكان يضحك ويقهقه ولا يوقفه عن الضحك سوى نوبة الكحة التي تباغته حتى يتخدر وينهار في فراشه .

وقبل ذهابي لأنام مع والدي قال لي: (بارك  الله فيك عسى الله أن يجمعني بك في الجنة) ..

*****

عند الفجر كنت أسند والدي أثناء الوضوء ثم اجلسته في مصلاة ؛ فسمعت بلبلة وبعض الضجيج في الغرفة المجاورة.. 

تركت والدي يصلي وذهبت لأرى ماذا هناك فرأيت طبيبا وممرضتين يقفان أمام سرير الرجل وهو مغطى بشرشف أبيض من رأسه حتى أخمص قدميه ويتجادلون ..

فأيقنت بأن الرجل قد فارق الحياة ورحل .

سمعت الطبيب يقول للممرضة: اتصلوا بأولاده .

فقلت له : ليس له أولاد إنه عقيم ، ووحيد ؛ أنا سأتكفل بالجثة .

ذهبت إلى بيت الرجل وقرعت الباب على أقرب جيرانه .. وأخبرته بوفاته فذهب يقرع أبواب جيرانه الآخرين فهبوا جميعا كل جار يطرق الباب على جاره  حتى اجتمع كوكبة منهم وذهبنا  إلى المستشفى وحملنا الجثة وادخلناها دار المتوفى وقام جاره بجلب المغسل من الحارة المجاورة. 

وتم تغسيله وتكفينه في داره على أتم وجه .. وسرنا بجنازته والتي التم حولها عشرات الناس أثناء سيرها في الطريق إلى المقبرة وصلى عليه رهط كبير من الرجال .

ودفناه دفناً يليق به .. ولا زلت حتى اللحظة لا أنسى دموعه تلك الليلة ، وآخر عبارة قالها لي قبل أن يترك هذا العالم الزائف :

“حين أموت احرق كل ما يوجد في غرفتي ، وابعثه “رماداً” لأولادي عسى أن يحيي قلوبهم الميتة.”

فسبحان الله الذي خلق قلوباً من قطن وحرير ، وخلق أفئدة من جمر وحجر..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى