الـوجـه الآخـر للنـصـيـحـة..
شـيـخـة الـمـحـروقـيـة
الـوجـه الآخـر للنـصـيـحـة..
كثيرٌ هم أولئك الذين يقدّمون النصائح مرددين عبارتين أحدهما بسوء فهم أو تحريف والأخرى بلا معرفة حقيقية لقصتها؛ ثلّة منهم يستندون على حديث نبينا الكريم محمد ﷺ: “الدين النصيحة – رواه مسلم” معتقدين أن تقديم النصيحة هو جزء من الممارسات الدينية بينما الحديث يشير بكل وضوح إلى أن الدين الإسلامي هو ََذاته النصيحة، أي الدليل الذي نستدل به هاديًا ورشيدًا في متاهات الحياة، أما الثلّة الأخرى فإنها تنطلق في إطلاق نصائحها اعتمادًا على القول الشعبي : “النصيحة بجمل” على اعتبار أنهم يقدّمون شيئًا ثمينًا للمنصوح (الذي قُدِّمَت له النصيحة) يساوي في قيمته جمل، ولو عدنا إلى القصة الحقيقية لهذا المثل لعرفنا أن من قدّم النصيحة وثمّنها ببعير هو رجلٌ حكيم بعد أن طلبها منه رجلٌ يحترمه كان يعمل تحت إمرته، وهذا يعني أن الناصح لا بد أن يكون حكيمًا فعلاً ليكون أهلاً للنصح، وأن المنصوح يجب أن يطلب النصيحة في المقام الأول؛ فهناك مثلٌ شعبي في مختلف الثقافات يقول : الملح والنصيحة لا يوهبان إلا عند الطلب.
من المواقع التي ذكرت فيها النصيحة ولا يذكرها الناس كثيرًا هي الحادثة الكبرى التي بدأت معها رحلة الشقاء في هذه الدنيا؛ إذ أن إبليس عندما أغوى آدم وحواء ليأكلا من الشجرة فأخرجهما من الجنة تراءى لهما على هيئة الناصح الذي ينوي الخير لهما: “وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين” – الآية 21 من سورة الأعراف – وفي حياتنا الاجتماعية يبادر بعض الأشخاص في تقديم النصائح دون أن نسألهم، ويحرموننا من جنة “الاستقلالية” و “التعلم الذاتي”، فإن ذكرت أنك ذاهبٌ في سفر لانهلّ عليك الناصحون بزيارة المدينة تيك وتلك، وتجربة المطعم ذلك وذاك، وتفضيل طيران عن آخر وفندق عن آخر، فيمنعون عنّا متعة الترحال والهيام والتوهان واستكشاف أكبر قدر ممكن من هذا العالم، ويحولون بيننا وبين الخيارات الخاطئة التي بلا شك سنتعلّم منها الكثير، ويقتلون إنسانيتنا في عيش الغضب وتأنيب النفس ولومها ووعدها بعدم تكرار هذا الخيار أو اتخاذ ذاك القرار، متجاهلين أننا “لا نتعلّم بالنصيحة بل بالوجع” كما قال مارك توين، فارضين علينا سلطتهم كأوصياء لنعيش التجربة ونتذوقها بأسلوبهم وليس بأسلوبنا، مؤكّدين على استمرار التناسخ وإنعدام الفردانية، حتى في بناء بيوتنا يتقدّم الكثيرون في عرض خدماتهم “النُّصحِيَّة” في المخططات والألوان الأبواب والنوافذ والأثاث وكل التفاصيل، ينصحوننا لأن نبني بيوتنا وفق ما يرونه هم وليس كما نراه ونريده نحن، وذلك يتكرر في خياراتنا البسيطة كشراء سيارة أو اختيار وظيفة أو حتى اقتناء كتاب، راسمين أنفسهم أنهم الأكثر خبرة وحكمة وأنهم أصحاب القرارات الأصح والأفضل، لعلّهم يعتنقون ولو قليلاً قناعة يوسف زيدان حينما قال : “لن أنصحك بشيء؛ فلا شيء أثقل على النفس الحرّة من تلقّي النصائح”.
إن الأدهى والأمرَّ من ذلك كلّه أن بعض الناصحين يتوقعون من المنصوح أن يعود إليهم باستمرار ليأخذ مشورتهم في كل شؤون حياته، فإن أخذ بنصيحة او اثنتين اعتبروه مدينًا طوال عمره لبنك النصائح الخاص بهم، فيبقى بذلك أسيرًا لهم مُلزمًا باطلاعهم على كل خططه ونواياه حتى لا يحيد عن الصراط المستقيم – حسب أوهامهم، وبعضهم يتفاخر بين الخلائق أنه صاحب الفضل في تنظيم حياة أحدهم عبر “نصائحه”، وفي الجانب الآخر نجد بعض المنصوحين يختارون بأنفسهم أن يكونوا عبيدًا لناصحيهم ويقدسونهم ويعتبرون كل ما يصدر عنهم دستورًا سماويًا لا يقبل النقض أو حتى الجدل والنقاش، ووجب هنا الإشارة إلى أن النصائح قد تأتي في عدّة أشكال وصور كالفتاوى الدينية والاستشارات الحياتية وطرق تنمية الذات والآراء حول الظواهر الاجتماعية وغيرها، فليس كلُّ ملتزم بالدين أهلاً للإفتاء والوعظ والإرشاد، وليس كلُّ من حمل شهادة في علم الاجتماع كفوًا لمعالجة الظواهر الاجتماعية، وليس كل متحدّثٍ لبق أو كاتبٍ جيّد أهلاً لإعطاء النصائح والمشورات في الحياة والذات، كما أن النوايا الحسنة لا تبرر منح النصائح جزافًا دون التفكّر بعواقبها؛ فالنصيحة بنتيجتها وليس بنِيَّتِهَا كما يقول الكاتب الروماني شيشرون.
والنصائح في عالم السياسة هي لعبة أخرى وهي واحدة من أساليب الاستعمار الناعم، وفي التاريخ البعيد والقريب قصصٌ لأولي الألباب، فقد أشار روبرت ويندور في كتابه (القوة الناعمة : اللعبة الكبرى الجديدة) بأن أوروبا تاريخيًا فرضت سطوتها على أفريقيا وبعضٍ من آسيا بنعومة خبيثة؛ حيث كانت تذهب إلى تلك الشعوب التي تمتلك في أراضيها موارد وثروات كثيرة وتخبرها بأنها غير مؤهلة لاستغلالها، فتعرض عليها المساعدة عبر تقديم المشورات لتُحْكِم تدريجيًا قبضتها عليها وتستعمرها، ثم تعلّمت منها أمريكا هذه اللعبة وبدأت بممارستها بعد الحرب العالمية الثانية؛ فأخذت تقدّم النصائح على هيئة قِيَم يجب أن تعيشها الدول خاصة في الشرق الأوسط، كالحرية والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وإلى آخره، ومن أعارها أذنًا صاغية استطاعت أن تلف حبلاً حول عنقه لتقوده كما تريد، ويؤكّد ذلك جوزيف نايي في كتابه (القوة الناعمة : أدوات النجاح في عالم السياسة) حيث يقول : (الإغواء أقوى من الإجبار .. وأمريكا استطاعت إغواء العالم عبر قيمها وسياساتها الخارجية لأنها قدّمت نفسها كأنموذج لهذه القيم)؛ فكم من حروبٍ شنّتها أمريكا وهي مدفوعةٌ بوحي “المُخَلِّص” الذي استلهمته من أيديولوجيتها المسيحية؛ حيث يشير الفيلم الوثائقي بعنوان “العائلة” إلى أن السياسة الأمريكية الخارجية تنطلق من اعتقادها بأنها الوحيدة المعنيّة بإصلاح الكون وإنقاذه، وكم من شعوب وحكومات سلّمت رقبتها لأمريكا لـ “تُخَلِّصها” من واقعها، وها هي تعيش ويلات ذلك بعد أن تخلّت عن إرادتها المستقلّة، ومن المفارقة بمكان أن تعجز أمريكا عن تخليص نفسها من شرور مواطنيها الذين يقتّلون بعضهم في حوادث إطلاق نار جماعية متكررة.
إن الوجه الشيطاني للنصيحة لا ينفي حقيقة أن هناك مَنْ تعلّموا وتمرّسوا في هذه الحياة ويمتلكون المعرفة الوافية في كل شأن؛ لذلك نحن نقصدهم بأنفسنا لأخذ الاستشارات في مجالات كالدين والهندسة والطب والاقتصاد وعلم النفس والاجتماع وغيرها، وندفع لهم حبًا وكرامة ثمن الجمل قيمة لنصائحهم ومشوراتهم، وهناك من كانت لهم هذه الحياة مدرسة عظيمة فنهلوا من الحكمة الشيء الكثير، والعمر ليس بمعيار ليصبحوا لنا كـ “الحادي” الذي يقودنا بمحبة إلى دروب الأمان، بينما آخرون أخذوا دور “الناصح” ليجدوا لأنفسهم مكانة في هذا المجتمع عبر فرض وصايتهم علينا واهمين أنفسهم أن حالنا لا يصلح إلا بهم، وما انكشاف الوجه الآخر للنصيحة إلا لندرك عِظَمَ أثرها وتأثيرها، فالناصح عليه توخي المسؤولية ومخافة الله قبل إسدائها كما أوصى سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه، أما متلقّي النصيحة فتقع على عاتقه مسؤولية التمييز بين النصائح من حيث المصدر والمضمون؛ فبعضها قد يهديه سواء السبيل وبعضها قد يحرمه من جنة نعيم.
هوامش :
الحادي : الذي يسُوق الإبل بالحُداء أي بالغناء..
سلاسة في السرد ، وبراعة في الاستدلال
أسلوب الكتابة أوفى الموضوع حقه ومستحقه
بورك قلمك وفكرك استاذه شيخة