
الصناعاتُ الإبداعيّة والثقافيّة… داعمة للتحول المعرفي وقوة تنعش الاقتصاد المحلي
أصـــداء /العُمانية
تقوم الصناعات الإبداعية والثقافية بدور فاعل في دعم الاقتصاد المعرفي والابتكاري حول العالم، حيث تزايدت إسهاماتها بشكل ملحوظ مع كل مرحلة من مراحل الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتقني. وتمثل هذه الصناعات مصدرًا جوهريًّا للقيمة المضافة في الناتج المحلي الإجمالي إلى جانب تنويع مصادر الدخل الوطني وتعزيز الاستدامة المالية.
وتولي سلطنة عُمان أهمية متزايدة لتعزيز دور الثقافة والتراث والفنون باعتبارها ركائز أساسية في التنمية الوطنية، حيث ينص أحد أهداف أولوية “المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية” ضمن رؤية “عُمان 2040” على ضرورة تحقيق استثمار مستدام للتراث والثقافة والفنون مما يسهم في نمو الاقتصاد الوطني وتنويع مصادره.
وقال الدكتور سليّم بن محمد الهنائي، أستاذ مساعد في كلية العلوم والآداب بجامعة نزوى في تصريح لوكالة الأنباء العُمانية: “إن الصناعات الإبداعية تُعرف ضمن السياق المحلي والوطني على أنها تمثل مجموعة من القطاعات التي تعتمد على الابتكار والموهبة الفردية، وتسهم في تحويل الأفكار إلى منتجات وخدمات ذات بعد اقتصادي. وتتنوع هذه الصناعات لتشمل الحرف التقليدية، والفنون التشكيلية، ومجال الأدب والنشر، إلى جانب الموسيقى والسينما والتصميم، والإعلام الرقمي”.
وأضاف: وجدت تطورا كبير في صناعة الخناجر العُمانية والمجوهرات الفضية والنسيج التقليدي، وبالتحديد في ولاية نزوى وصحار، أما في التصميم الجرافيكي وإنتاج المحتوى الرقمي، فهناك توجه كبير في وسائل التواصل الاجتماعي ويوجد تطور في صناعة السينما العُمانية بنتائج محلية وداخلية، كما يتصدر الجانب الثقافي معرض مسقط الدولي للكتاب، ومهرجان مسقط السينمائي الدولي، وتنبثق حيوية هذا القطاع في دعم الهُوية العُمانية من خلال الثقافة والاقتصاد الوطني والمحلي.
وأكد على أن للصناعات الإبداعية دورا متزايدا في انتعاش العديد من جوانب الاقتصاد العُماني والنهوض بنماذج بديلة ومستدامة، مما يساعد في إيجاد فرص عمل إبداعية للشباب العُماني في مجالات التصميم، والحرف التقليدية، والمحتوى الرقمي، وتعد مصدرا بديلا عن الاعتماد على القطاع التقليدي.
ووضح أن هذه الصناعات تعزز السياحة الثقافية، وذلك بارتباط التراث العُماني الأصيل بالمنتجات والصناعات المعاصرة الحديثة، وتكشف عن إمكانات في الاقتصاد الرقمي عبر المنصات الإلكترونية للتسويق المحلي والعالمي. كما تعد قيمة مضافة عالية بتكلفة استثمارية منخفضة نسبيًّا، وتنمو من خلالها شراكات دولية وعالمية تقدم الثقافة العُمانية إلى العالم.
وعن الدور التي تقوم به المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في دعم الصناعات الإبداعية، باعتبارها أحد الروافد الأساسية للاقتصاد المعرفي، قالت بدرية بنت محمد الفورية، مديرة دائرة ريادة الأعمال بهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في تصريح لوكالة الأنباء العُمانية:” إن برنامج ريادة يولي اهتمامًا بالغًا بتعزيز منظومة الصناعات الإبداعية، باعتبارها رافدًا اقتصاديًّا وثقافيًّا محوريًّا يسهم في ترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز القوة الناعمة لسلطنة عُمان”.
وأضافت أن “ريادة” يعمل على تمكين أصحاب الأفكار والمبادرات الإبداعية من خلال برامج متكاملة تشمل التدريب المتخصص، والإرشاد الفني، وبرامج الاحتضان التخصصية وتقديم التسهيلات التمويلية إلى جانب توفير بيئة أعمال محفزة تتيح تحويل الفكر الإبداعي إلى مشروعات ذات أثر مستدام من خلال مراكز ريادة الأعمال المتخصصة في الصناعات الإبداعية.
وبينت أن “ريادة” تبادر إلى بناء شراكات استراتيجية مع الجهات الثقافية والتعليمية والمجتمعية، بما يضمن الاستثمار الأمثل في التراث الفكري العُماني، وتوظيفه في إنتاج محتوى ثقافي متجدد يتماشى مع متطلبات العصر مؤكدة على أن الصناعات الإبداعية تمثل فرصة واعدة لتوليد الدخل، وإيجاد فرص عمل، وتعزيز التنافسية، إذا ما تهيأت لها البنية التشريعية والمؤسسية المناسبة، وتأهيل الكوادر الوطنية القادرة على قيادة هذا القطاع الحيوي.
من جهته قال مرتضى بن عبد الخالق اللواتي، مدير عام متحف المكان والناس إن الصناعات التقليدية العُمانية جسدت إرثًا حضاريًّا عريقًا نشأ من احتياجات الإنسان اليومية، وتطور بفعل المهارة الفطرية التي يتمتع بها الحرفي العُماني، الذي عرف بإبداعه ودقته الفنية مشيرًا إلى أن هذه الصناعات تجاوزت حدود الوظيفة لتصبح تعبيرًا بصريًّا وثقافيًّا يعكس جماليات الحياة العُمانية، ويبرز الهُوية الوطنية في أبهى صوره.
وأضاف أن هذه الصناعات تحظى باهتمام واسع لما تمثله من قيمة فنية وفكرية واكبت مختلف العصور، وأسهمت في نقل الموروث الثقافي إلى الأجيال، حفاظا على روح الإبداع التي تميز بها العُماني.
وذكر أن الحرف التقليدية نالت إعجاب شعوب العالم، لما تحمله من دقة في الصنع، وثراء في التعبير، وعمق في الرسالة الحضارية، لتكون شاهدًا حيًّا على نجاح الصناعات العُمانية في ترسيخ حضورها العالمي.
وفي سياق حديثه عن تطوير الصناعات التقليدية أكد في تصريح لوكالة الأنباء العُمانية على أن التطوير لا ينبغي أن يؤدي إلى طمس الفكرة الأساسية لأي صناعة محلية، وأن الإبداع العُماني متجذر في الهُوية الفنية والثقافية، ولا يمكن فصله عن السياق التعبيري والبصري الذي يميز هذه الصناعات.
وقال إن تطوير آليات الإنتاج يعد خطوة إيجابية نحو تعزيز الكفاءة، إلا أن تحويل الصناعات المرتبطة بالرموز التراثية، كـ”الخنجر العُماني”، إلى منتجات لا تمت بصلة إلى أصلها، يُعد إخلالًا بجوهر الموروث الثقافي.
وأشار إلى أن الصناعات التقليدية العُمانية لا تحتاج إلى تغيير في مضمونها، بل إلى توثيقها وترويجها كمنتج ثقافي قائم بذاته، يحاكي الأصالة ويعكس الهُوية الوطنية، كما أن دمج الصناعات التراثية بمنتجات أخرى لا يعد تطويرًا، بل يمثل انحرافًا عن المسار الإبداعي الأصيل، مؤكدًا على أن الحفاظ على التراث وتقديمه بصيغته الأصلية هو السبيل الأمثل لصون الهوية الثقافية.
وذكر أن الفنون التقليدية تعد من أبرز روافد السياحة الثقافية، ويجب الاهتمام بها وتطوير صناعاتها بما يحفظ جوهرها، دون المساس باستخداماتها الأصلية، حفاظًا على قيمتها الحضارية والاقتصادية، ومكانتها في الوجدان العُماني والعالمي.
من جانبه قال خالد بن سليمان أمبوسعيدي صاحب “نزل المنازل” في حارة العقر بولاية نزوى لوكالة الأنباء العُمانية: إن مشروع “نزل المنازل” حافظ على الموروث الثقافي العُماني في عدم المساس بأي جزء منه ولا يحتاج إلى ترميم، وإظهار القيمة المعنوية الحقيقية للمكان عبر استخدام مواد تراثية وألوان مستوحاة من الطابع المعماري العُماني القديم، وتصميم النوافذ والأبواب بأسلوب خشبي تقليدي.
وأضاف أن هذا النوع من المشروعات الإبداعية لا يقتصر أثره على الداخل العُماني فحسب، بل يمتد ليشكل صورة ذهنية إيجابية عن سلطنة عُمان في الخارج، حيث يُنظر إليها كدولة تحافظ على تراثها وتقدره، وتوظف الصناعات الإبداعية في إبراز هويتها الوطنية.
وأكد على أن الحفاظ على التفاصيل الدقيقة في الترميم، وتقديم تجربة سياحية ثقافية أصيلة، يعكس قدرة الصناعات الإبداعية على بناء جسور بين الماضي والحاضر، وتعزيز الانتماء والوعي الثقافي لدى المجتمع والزوار على حد سواء.
وفي حديثه عن آليات تطوير الصناعات الإبداعية في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي يشهدها العالم فإنه يرى ضرورة وجود أشخاص مختصين في مجال الترميم والمحافظة على المنازل التراثية القديمة وإبراز معالمها بصورة واضحة تحكي حياة العُماني قديما.
وأشار إلى أن تعزيز الصناعات الإبداعية في ظل الطفرة المعلوماتية تتطلب تكاملًا بين الجهود المجتمعية والمؤسسية في توظيف التقنيات الحديثة في التوثيق والترويج، بما يسهم في الحفاظ على التراث الوطني وتحويله إلى مورد ثقافي واقتصادي مستدام.
جدير بالذكر أن الصناعات الإبداعية تعد محرّكًا رئيسًا لنشر الوعي وتطوير التعليم وتحسين جودة الحياة، إذ تسهم في رفع مستويات التفكير النقدي والانفتاح، وتعزز رفاه المجتمعات وتنميتها المستدامة.