ثقافة وأدب

الشعر والسرد: ماهيّات التقاطع في الثقافة الحديثة

أصـــداء /العُمانية

في واقعنا المعاش اليوم، حيث تتقاطع التجارب الإنسانية وتتداخل الرؤى الثقافية، يأتي الشعر ليكون أكثر من مجرد كلمات عابرة، بل تجربة وجودية تسعى لاكتشاف الذات والعالم من حولنا. ومع ظهور ما يمكن تسميته بـ “السرد الشعري” في عوالم الشعر والسرد أيضًا، بدأ الشعر يتجاوز حدود التقليدية ليكون أكثر تفاعلًا مع السرد في عمومه، مستلهمًا من تقنيات السرد قدرة جديدة على تقديم التجربة الإنسانية بعمق وثراء.

وفي هذا السياق، يتحدث الشاعر العراقي الدكتور علي حسن الشلاه عن إمكانية مساهمة السرد الشعري في تشكيل الهوية الفردية والجماعية في عصر الحداثة، وما إذا كان الشعر الحديث أيضًا قادرًا على أن يكون مرآة للهوية الإنسانية كما يفعل السرد الأدبي، ويقول: “أعتقد أن تلاشي رواية القصة المتسلسلة الأحداث (الحكاية) تقريبًا، ودخول الرواية إلى عوالم الوصف المطوّل والانثيالات النفسية والصور الفنية، قد أوقعها في حبائل الشعر وعوالمه. وأزعم أن المتلقي الحصيف يمكنه اقتطاع عشرات النصوص الشعرية من كل رواية حديثة تصدر، وهذا يجعلنا أمام نوع جديد يجمع الرواية بالشعر، وهو أساس الفكرة الإبداعية، إذ إن التصنيف لا يغير من وظيفة النصوص شيئًا ولا من لذة تلقيها ومعرفتها.

وأشار إلى أن السرد الشعري، مثلما يشكّل خارطة الروح، فإنه يشكّل هوية الحضور الإنساني لها ويجعلها متجلية للمتلقين في ضفاف العالم الجديد، وإن كانوا أقل من متأملي المشهد الروائي عددًا، لكنهم أكثر عدة معرفية وخزين قراءات متتالية. ويقول: “السرد الشعري، من وجهة نظري، هو الأقدر على تمثيل هوية الفرد الشخصية، لأنه يدون انفعالاتها الأولى وعباراتها كلها، حتى المبهمة منها، والتي ترسم عوالم هويتها وإن بدت خاصة وشخصية تمامًا، وذلك عائد إلى قلة الصنعة فيه إلى حد كبير، في حين يكون السرد الأدبي مبنيًّا على صناعة مقننة ترسم أطره وتقود أحداثه ونسقه العام، مما يجعل الهوية فيه (السرد الأدبي) مصنوعة ومقصودة وربما ممكنة التزوير إن شاء المؤلف ذلك وحسب غاياته”.

وأوضح أن حين يصير الشخصي والخاص في السرد الشعري متداولًا ومتجاورًا مع نتاجات مبدعين من الهوية ذاتها، يصير هذا التجاور نسقًا عامًا، وتتحول الهوية الفردية إلى نسق وهوية اجتماعية جامعة أكثر بروزًا وحضورًا بفعل وظيفة الشعر وقدرته على الإنشاد والحضور الغنائي المتعذّر على السرد الأدبي.

ويؤكد قائلًا: “إذا تأملنا مسيرة النوعين الشعري والسردي فيمكننا القول إن عددًا من الروايات كانت تاريخًا أدبيًا لأحداث ولنَشأة دول وتوصيفًا لها، لكنها لم تكن هويتها الروحية. في حين كان السرد الأدبي هو الهوية الأكثر سطوعًا في ملامح الأمم والشعوب، خصوصًا في حالاتنا العربية عبر تاريخنا الذي تأخر فيه حضور السرد الأدبي كثيرًا عن حضور السرد الشعري، ولذا فقد انفرد السرد الشعري بالمدونة الإبداعية العربية قرونًا عديدة قبل أن يزاحمه السرد في القرن الأخير. وإذا شئنا أن نحفر في المصطلحين (السرد الشعري والسرد الأدبي) وفي الهوية ذاتها، وجدنا أن تشكيل أي منهما للهوية وحضوره فيها مختلف وخاص، حتى يمكننا القول إن هذا الحضور في السرد الأدبي أكثر تأطيرًا للجانب الشكلي والظاهر من الهوية القومية، في حين يكون السرد الشعري هو هوية الروح وذاكرتها المبنيّة على المشاعر والمنظومة العاطفية والقيمية، وإن بدا بعضها خياليًّا”.

وأوضح أن كل ذلك يقود إلى الهوية الإنسانية بمعناها القيمي أولًا ثم بمعناها الشمولي. ولابد أن نتساءل عن البعد الإنساني المراد تثبيته، لا سيما في زمن الحداثة الذي ينتزع القيم من جذورها ليتركها أمام الأنظار الفضولية والمتجاهلة على حد سواء. فهل السرد الشعري ما زال قادرًا على الاحتفاظ بتشابه ما بين إنسانين من بيئة واحدة، أم أن هجوم تقنيات الحداثة والعصر قد أنهى فكرة الخصوصية والهوية الاجتماعية باتجاه هوية عالمية عنوانها الأول هو اللاتشابه واللاحدود والانفلات من كل المحددات والأطر والسمات الثقافية للمجتمعات؟ وهل هناك جدوى من التمسك بهوية اجتماعية خاصة في مجتمعات تفقد أسوارها كل يوم، أم أن الهجوم التقني الذي يكاد أن يلغي الإنسان كله بعد أن ألغى سماته الروحية والاجتماعية؟

ويبيّن قائلًا: “إن شعورك بالرعب من تواجدك وحيدًا في غرفة مع أجهزة إلكترونية حديثة لا تعرف مشاعر قديمة مثل الخوف والرعب، هو الاغتراب ذاته الذي تعانيه هويتك وروحك، التي لم يبقَ لها إلا السرد الشعري الشخصي الذي يتواشج مع مثيلاته وأمثاله ليغدو الهوية الصادقة وغير المصنوعة الوحيدة في زمن تكتب فيه الآلة، وليس الإنسان، التاريخ وعلم الاجتماع والهويات المعلنة والمزوّرة في أحايين كثيرة. ولولا وجود السرد الشعري لتلمّسنا الإنسان والإنساني فلم نجده، وأعلنّا رحيل الإنسان وربما موته في حضوره الذي لا فاعلية به أو له. وأؤكد أن الشعر هو هوية الإنسان الأخيرة، وربما الوحيدة”.

أما الشاعر العُماني يحيى اللزامي فيتحدث في هذا السياق عن الشعر الحديث، كون الزمن لا يسير بشكل مرتب، بل يختلط الماضي بالحاضر، فتتداخل الذكريات مع اللحظة الحالية. وهذا ما يؤثر حقيقة على القارئ وطريقة فهمه للقصيدة، ويقول: “هنا تتداخل عدة عناصر متعددة بين الذاتي والموضوعي والمعرفي والجمالي، وتأسيسًا على ذلك، فإن الأمر يقتضي إمعان النظر في تلك المصطلحات لتحريرها؛ بغية تبيان المعاني، ووضعها في سياقاتها المعرفية، ورصد ظلالها الناجمة عن الحمولات الدلالية، منطلقًا من مفهومي الخاص لتلك المصطلحات”.

ويوضح: “الشعر، في نظري – بعيدًا عن التعريفات المدرسية – سيبقى على مدى العصور والأزمان مثار أسئلة وإشكالات. والذي أفهمه بأنه – أي الشعر – أفق واسع للكتابة والتفكير والتجريب خارج الأطر والأقواس، فهو حصانٌ جامحٌ يستعصي على التعريف فضلًا عن الترويض، ونهرٌ متدفقٌ يتعذّره حبسه في برك الزينة ليشاهده السياح وطلبة المدارس والمتخمون بالتنظير للحداثة وما بعد الحداثة”.

ويضيف: “أما الحديث، فهو مفهوم متحرك؛ فما كتبه امرؤ القيس يعد حديثًا يومئذ، وما كتبه عروة بن الورد والسليك بن السلكة يعد حديثًا في وقته، وهكذا دواليك. إنني لا أرى أفضلية للحديث لذاته وبذاته، كما لا أرى ميزة للقديم لأسبقيته. فالقدم والحداثة ليستا صك براءة أو علامة جودة معتمدة؛ فالعبرة بالشاعرية في المقام الأول”.

ويؤكد اللزامي قوله: قد يجد القارئ أن زهير بن أبي سلمى أكثر حداثة من شاعر يكتب اليوم نظمًا باردًا بلا روح، ومن يقرأ المتنبي بما يليق بفرادة تجربة هذا العبقري الفذ، لا يستطيع مواصلة القراءة دون استشعار فائق قدرته على الإتيان بالاستثنائي والمدهش. وهل الشعر في جوهره إلا الدهشة التي تولّدها القراءة والفهم؟ وهكذا الشأن مع بقية الكبار مثل البحتري، وبشار بن برد، والنواسي، وتلك السلالة الممتدة حتى اليوم. هنا تكمن أهمية الشعر في قدرته على إحداث تحول شعوري ووجداني في ذائقة المتلقي، يتجاوز لحظة التلقي إلى مديات أبعد.

ويطرح تساؤله: من ذا الذي يستطيع مدافعة تجارب شوقي والجواهري والبردوني وعمر أبو ريشة، مرورًا بتجارب صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، ومحمد عفيفي مطر، ونازك الملائكة، وعبد العزيز المقالح، وشوقي أبي شقرا، ومحمد الثبيتي، ويوسف عبد العزيز، وسنية صالح، وغيرهم؟ فهي بلا شك قد ساهمت في سيرورة الشعرية العربية وتحولاتها. أما تأثير ذلك على تجربة القارئ وفهمه للحدث الشعري، فذلك يعتمد على عدة محددات مثل الخبرة التراكمية، والمعرفة العميقة، والقدرة على التذوق الجمالي، واستبطان المعاني الكامنة خلف الكلمات التي لا يبوح بها الشعر غالبًا. وذلك يحتاج إلى معرفة المعينات نحو “علم الآلة”. فالتلقي، مثل الإبداع، حالة فردية محضة، ولهذا يصبح القول فيه خبط عشواء، وتغدو الإجابة الواثقة ضربًا من التنجيم.

أما الدكتورة الشاعرة المغربية خديجة السعيدي فتتحدث في هذا السياق عن العلاقة بين المعرفة والتجربة العاطفية في الشعر الذي يستخدم تقنيات سردية، وما إذا كان قد أصبح السرد الشعري وسيلة لتوصيل حقيقة عاطفية أو حتى فلسفية بطريقة مختلفة عن السرد الأدبي. كما تشير إلى التوافق بين المعنى والخيال واللغة وتقول: في الشعر الذي يتكئ على تقنيات السرد، لا تعود المعرفة فكرة تُصاغ، بل أثرًا يُستشعر. فالمعرفة في السرد الشعري لا تولد من برودة العقل بل من حرارة الشعور، ومن تداخله العميق مع نَفَس اللغة وبُعد الخيال. لقد صار السرد الشعري منطقة عبور بين القول والانفعال، وبين الحكاية كحدث والتجربة كارتجاف داخلي. لأنه لا يحاكي الواقع ولا يعيد ترتيبه، بل يكشف عن طبقات خفيّة من الذات والعالم تتبدى كاهتزاز يشي بالحقيقة دون أن يصرّح بها. وهو التعارض الذي بيّنه الأديب الفرنسي جيرار جينيت بين “موضوعية السرد” و “ذاتية الشعر”.

وتوضح أن السرد الشعري لا يحكي، بل يُضيء. لا يسرد ليُخبر، بل ليربك المعنى الظاهر ويفتحه على احتمالات التأويل. إنه لا ينتمي إلى منطق الرواية ولا إلى نبرة القصيدة المألوفة، بل يقيم في تلك المسافة بين الشكلين، حيث تتحوّل اللغة إلى جلد جديد للحسّ، والخيال إلى مجاز يفكك الصمت.

وتشير إلى أن ما بين المعنى والخيال واللغة تقوم ثلاثية دقيقة التوازن؛ فالمعنى لا يُمنح للقارئ، بل يُنتزع من النص انتزاعًا، ويُبنى عبر التوتر بين الصورة والحس، بين ما يُقال وما يُحذف. أما الخيال، فليس مفرًا من الواقع، بل نافذة إليه، يعيد تكوينه لا ليشرحه، بل ليجعلنا نراه لأول مرة. واللغة، في هذا السياق، لا تُبنى لشرح العالم، بل لتكثيف حضوره؛ إنها لغة مشبعة بالهمس، معقّدة ببساطتها، لا تستسلم للبلاغة بل تراوغها.

وتؤكد قولها: هكذا يصبح السرد الشعري فضاءً لتجربة عاطفية وفكرية في آن؛ تجربة لا تُقرأ بعين التحليل فقط، بل تُلمس بالقلب والحدس. ولا يمنحك جوابًا، بل يبعث إليك سؤالًا. لا يقودك إلى المعنى، بل يوقظ فيك رغبة دائمة في البحث عنه.

أما الروائي والشاعر العُماني زهران القاسمي فيتحدث عن تأثير التراث الشعري بكلاسيكيته على التجارب الشعرية المعاصرة، وكيف يمكن للشعر الحديث أن يكون مساحة للتجريب على القواعد التقليدية، وما إذا كان من الممكن أن يحافظ على جذوره الثقافية والرمزية، ويقول: “التراث الأدبي العربي غنيٌّ بمدارس شعرية وتجارب أثرت الأدب على مدى العصور منذ العصر الجاهلي وحتى الحديث. الكثير من التجارب الشعرية الحاضرة نهلت من هذا التراث لتخرج لنا تجربة حديثة وفريدة، لكنها أيضًا مرتبطة بالأدب القديم. أضرب مثلًا: الكتاب لأدونيس وكيف استفاد من شعرية وسيرة المتنبي، وقاسم حداد في (مجنون ليلى)، وغيرهم”.

ويؤكد: “الكثير ينادون بالانفصال عن التاريخ الأدبي العربي وإيجاد تجارب لها واقعها المعاش، ولكنني أعتقد أن الأدب هو مادة معرفية تراكمية تتداخل في ماهيتها حاضرًا وماضيًا، ونستطيع أن نشير إلى مادة تاريخية ونرمز بها لما يحدث الآن”.

ويبيّن أن الأدب لا يمكن أن ينفصل عن بعضه؛ فالهمّ الإنساني واحد على مر العصور، تتشابه الوقائع وتُعاد بشكل أو بآخر، ويتكرر التاريخ بصورة وأخرى، ويتم من خلال ذلك تدوير الأدب، فنرى الروايات التاريخية التي تشير إلى حالة زمنية قديمة تتشابه وتتعالق مع ما هو موجود في الحاضر. لذلك أعتقد أنه من الصعب الانفصال بشكل نهائي عن كلاسيكيات الأدب، ولكنها تخرج بصور مختلفة في الكتابة والفن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى