
الكاتب محمد الحراصي: لغة الكاتب ليست ثابتة بل تتفاوت تبعًا لعدة عوامل تمليها الحالة الانفعالية الآنية
أصـــداء /العُمانية
“لغة الكاتب ليست ثابتة بل تتفاوت تبعًا لعدة عوامل تمليها الحالة الانفعالية الآنية حيث تتأثر بالمزاج وبالظرف المحيط أثناء الكتابة”، بهذه العبارة يشير الكاتب العُماني محمد الحراصي إلى رؤية الكاتب ولغته وما تمليه على أفكاره المتعددة فيما يتعلق بنتاجه الأدبي.
وتتجسد تجربة الكاتب الحراصي في عدد من الإصدارات بما فيها “ذاكرة الأسئلة” و”التسكع على حواف الخارطة” مرورًا بكتابات لمقالات نوعية في عدد من الصحف المحلية، وهو حاصل على المركز الأول في مجال القصة القصيرة في جائزة راشد بن حميد لسنة 2024.
وحول السيرة والنسق التجريبي الشخصي في سياق تجربته يشير “الحراصي” إلى نقطة التحول التي جعلت الأدب خيارًا وجدانيًا لديه مرورًا بعلاقته بالقراءة، وما إذا كانت هويته الشخصية تشكّل مادة لا إرادية للنص أم ساحة للتجريب المتعمد، ويقول: الأدب كخيار عندي كان نقطة تحوّل وانتقال بعد القراءة والبحث والاطلاع في مجال الفكر والفلسفة، حيث إن الأدب يشكل قالبًا تعبيريًا أقل مباشرة في طرحه من النتاج الفكري الصرف، إضافةً إلى أنه أقرب إلى المخيلة الإنسانية وأكثر ملامسة للوجدان الداخلي.
ويضيف: أما عن القراءة بالنسبة إليّ فهي أشبه بالماء للعطشان، إذ إن الكائن البشري متى ما أدرك جهله وضيق أفقه في كثير من جوانب الحياة، تاقت نفسه إلى إشباع فضوله الفطري، والقراءة في هذه الحالة هي المورد الأكبر لهذا الإشباع لما تتصف به الكتب من الشمولية المعرفية، ولما لها من القدرة على إرواء ذلكم الظمأ المعرفي.
ويؤكد “الحراصي” أن هويته الشخصيّة غالبًا ما تتدخل لا إراديًا في إنتاج النص حيث تملي على القلم اتجاهاته وتأخذه إلى مساراتها، وهذا أشبه بما يسميه المتكلمون بالجبرية، حيث تنزوي حرية الكاتب في خياراته الكتابية إلى أضيق مساحة ممكنة، ولكن ذلك لا ينفي تعمد استلهام تجارب أو مواقف بعينها واستغلالها في إنتاج النص بإعمال مبضع الجراح الأدبي في ثناياها والقيام بعملية تجميل لها ليكون المنتج النهائي ذا صبغة فنية جمالية قدر الإمكان.
ويتطرق “الحراصي” إلى بنية النص واللغة والأسلوب، وما جاء في مجموعته القصصية وإصدار الرحلات، وكيفية التعامل مع اللغة، وما إذا كانت “واقعية” أم لغة استعارية/تأملية، مرورًا بالتقنيات السردية التي يعتمدها كـ(زمن السرد، تعدد الرواة، لحن الجملة)، وهنا يوضح: لغة الكاتب ليست ثابتة بل تتفاوت تبعًا لعدة عوامل تمليها الحالة الانفعالية الآنية حيث تتأثر بالمزاج وبالظرف المحيط أثناء الكتابة، ولكن في الغالب الأعم فإنني أميل في الكتابة القصصية إلى استخدام الأدوات التمثيلية لما أود قوله، وأحاول الاستعانة بالكناية والتلميح عوضًا عن التصريح، وقد ألجأ في بعض الأحيان إلى أسلوب السخرية والتهكم، ولكن ذلك نادرًا ما يكون حيث المزاجية الكتابية لا توائم مثل هذا الأسلوب بسهولة. وإذا جئنا إلى إصداري في أدب الرحلات فالأمر لا يختلف كثيرًا، حيث تظل اللغة محتفظة ببصمة كاتبها الخاصة، ولكن التغير الذي يطرأ هنا هو الميل إلى الوصف الخارجي وسرد الأحداث كما حدثت وكما تلقاها الكاتب، حيث تتقلص نسبيًا مساحة الكناية والمجاز وتتسع مساحة التصريح.
ويقول “الحراصي” إن التقنيات السردية التي يستخدمها تتفاوت كذلك تبعًا لطبيعة النص. ويضيف: قد ألجأ أحيانًا إلى المونولوج الداخلي، أو ما يُطلق عليه المخاطبة الداخلية، وفي أحيانٍ أخرى يكون النص وصفيًا خالصًا، ومراتٍ أقوم باستثمار المكان ليتغلغل في ثنايا النص ويصبح هو بطل الموقف. ولذا فأنا أعتقد بأن كل نص يفرض هيكله الخاص ويُلوّن لغته بلون خاص بحيث تكون خادمة له ولما يود الإفصاح عنه.
ويقف “الحراصي” ليقدم حقيقة “ذاكرة الأسئلة” (المجموعة القصصية) الخاصة به، ليقترب من خلفية العنوان لهذه المجموعة، وما إذا كانت القصص أيضًا في خصوصيتها تُعيد سؤالًا واحدًا متكررًا أم هي ذاكرة متعددة الأسئلة، مرورًا بالقصة الأكثر “نضجًا” بالنسبة له وما إذا فكر في إعادة كتابتها اليوم، ليقول: “ذاكرة الأسئلة” هو عنوان القصة الأطول بهذا الإصدار، وأولًا: لا بد أن أوضح أن هذه المجموعة القصصية كانت أشبه بمختبر تجريبي في كتابة القصة، ولذلك فقد جاءت متنوعة في طرحها وفي شكلها ومحتواها، والعنوان ينبئ عن طبيعة معظم القصص التي يخوض أبطالها كل منهم سؤاله الخاص، وهي أسئلة في جوهرها ترتبط بجوهر الإنسان وماهية وجوده ومساره في هذه الحياة وصولًا إلى استشراف مصيره الخاص. لذلك فالأسئلة هنا تتسم بطابع التنوع النسبي، ولكنها في نهاية المطاف تصب جميعًا في بوتقة واحدة هي الإنسان وجودًا ومصيرًا. أما عن القصة الأكثر نضجًا فليس من السهل الإجابة عليه، ولكن قد تكون إحدى القصتين “الغريب والغروب” أو “مفتاح الخلاص” أجدر من غيرهما بذلك، كما قد ينطبق ذلك أيضًا على قصة “استيقاظ”، والسبب في اختياري لهذه النماذج هو المحتوى الرمزي الذي حاولت الوصول إليه في كل منها ونجاحي -كما أظن- في الاحتفاظ بإيقاع السرد فيها بحيث لم أسقط في التطويل الممل ولا التعجيل المخلّ. وبخصوص إعادة الكتابة فإنني لم أفكر في ذلك، حيث أحاول إعطاء الأولوية لكتابة الجديد الذي أتفوق فيه على نفسي عوضًا عن إعادة كتابة ما سبق لي نشره.
وفيما يتعلق بـ “التسكع على حواف الخارطة” في سياق أدب الرحلات: هنا يشير “الحراصي” إلى آليات اختيار “محطات” رحلاته وما يبحث عنه في المدينة أو المكان، سواء التفاصيل اليومية أم البُنى التاريخية/الإنسانية، مرورًا بما إذا كانت الرحلة مادة لتشكيل شخصيات أم لالتقاط لحظات ذاتية، وهنا يقول: اختيار محطات الرحلات تمليه طبيعة المسافر، وفي حالتي فإن هذه الطبيعة لا تنبع من كوني كاتبًا بقدر ما تنبع من كوني “مغامرًا”. إنها غريزة الفضول مرة أخرى، وهي تتجلى هذه المرة في حب الاستكشاف والبحث لا في بطون الكتب، ولكن في تضاريس الخريطة ومجاهيل الطبيعة والمدن. لذلك تجدني أبحث في ترحلاتي عن الطبيعة البكر قدر الإمكان، كما في ما تخبئه القرى والمدن مما يروي ظمأ الرحالة الباحث عن كل ما هو جديد وفريد. ولكوني من عشاق التاريخ، خاصة تاريخ الفكر ومسيرة الأفكار الإنسانية، فمن الطبيعي أن أقصد المتاحف والمزارات الدينية والتاريخية كذلك. إن المكان في أدب الرحلات هو سيد الموقف، كما أنه هو من يأخذ بيد الرحالة ويستثير فيه دواعي البحث والرغبة في المعرفة، والعامل البشري هو أحد مكونات المكان، لأن البشر يختلفون باختلاف الأمكنة، وهذا الاختلاف يفتح عيون المسافر على حقيقة أن ما اعتدنا عليه في بيئتنا وأفكارنا وعاداتنا ليس هو خاتمة الصواب وأُسّ الحقائق. إن بالسفر يدرك الإنسان أكثر نسبية الثقافات وإمكان تجاورها وتعايش بعضها مع بعض. ويضيف: أما الرابط بين السفر والقصص فهو علاقة إلهام واستلهام، حيث إن السفر مادة خصبة لخوض تجارب ولحظات تلهم الكاتب بذورًا لنصوص قصصية، كما أن السفر ثري بالشخصيات التي يمكن للكاتب أن يستمد منها شخصيات قصصه.
وفي شأن المقالات التي ينشرها “الحراصي” في الصحف محليًا، يشير إلى اختلاف الصوت أو الأسلوب في المقال عن الصوت في القصة أو الرحلة، موضحًا حقيقة الكتابة الصحفية وما إذا كانت تُقوّي النص الروائي/القصصي أم تُقيّده، ويقول: أسلوب كتابة المقالة يختلف عن كتابة القصة والرحلة، فالمقالة تقوم على أساس التسلسل المنطقي في استعراض الأفكار ويكون النص فيها أشبه بالبناء الذي يقوم بعضه فوق بعض، كما أن صوت الكاتب في المقالة هو صوت منهجي أو يحاول أن يكون منهجيًا وموضوعيًا ويتسم بإيراد الاستدلالات والقرائن التي تؤيد ما يود إثباته، وكل ذلك نقيض للكتابة القصصية أو ما اصطلح على تسميتها بالكتابة الإبداعية، حيث النسق المتبع في الكتابة قائم في جله على المخيلة وعلى تجنيد الإمكانات اللغوية والأساليب البلاغية، كما أن الذاتية حاضرة بقوة على حساب الموضوعية. ولأجل ذلك نجد أن الكتابة للصحافة تفيد الكاتب في أعماله الأدبية لأنها أولًا تحافظ على استمراريته الكتابية وتدربه على الاجتهاد الفكري، وثانيًا لأن اختلاف النسقين الصحفي والأدبي يعطي لقلم الكاتب ثراءً وسعةً في الأفق، ويمكنه من إيصال صوته وآرائه باستخدام الطريقتين أيهما كان الأنسب.
ولا يتجاوز “الحراصي” حقيقة الحصول على جوائز متقدمة في المسابقات الأدبية، وهنا يشير إلى المركز الأول في مجال القصة القصيرة — جائزة راشد بن حميد 2024، وما تمثل له هذه الجائزة على مستوى الثقة، الانتشار، مرورًا بفتح أبواب النشر والمهرجانات، مع التوضيح ما إذا تغيّر خطابه الأدبي بعد الجائزة، أو شعر بضغط التوقعات أو الالتزامات الإنتاجية، ويؤكد: حصولي على المركز الأول كان حافزًا قويًا لي، وإجابة على سؤال طالما أرقني بخصوص مدى جودة ما أكتبه، خاصة في ظل ما تشهده الساحة المحلية من كثرة في التأليف والإنتاج الأدبي يقابله تراجع وضعف في جودة الكتابات. فبعد الجائزة أصبح لدي ما يشبه اليقين بأن في إمكاني كتابة ما يرقى للقراءة، وأن مزيدًا من الاشتغال على نصوصي قد ينقلها إلى خانة متقدمة من الإجادة والتجويد. كل ذلك أذكى في داخلي شعلة الحماس الذي كاد يخبو، وزاد من ثقتي بالنفس التي دائمًا ما أعرضها للنقد الداخلي وجلد الذات. وهذا يفتح لنا بابًا واسعًا للنقاش حول الجوائز الأدبية، التي بقدر ما هي شحيحة وموسمية لدينا وتعكس قلة الاهتمام وإهمال القطاع الأدبي، فإنها بالقدر نفسه تبين كيف أن كثيرًا من كتابنا ومن طاقاتنا الثقافية والفكرية والأدبية لا يعطون هذا المجال أولوية لديهم، بل هو كالهواية التي تُمارَس في وقت الفراغ، حتى إذا ما جاءت مواسم المسابقات شمروا عن سواعدهم وأقلامهم. وأنا أقول هذا الكلام متّهمًا نفسي أولًا قبل غيري، ومعترفًا بضعف الهمة وتدني العزيمة والتقصير.
ويتطرق الحراصي إلى القضايا التي تحرك كتابته اليوم وما تتمثل في (هوية، ذاكرة، تنقّل، لغة، بطالة، التحول الاجتماعي)، وما إذا كان لنصه وظيفة نقدية لما نراه في الواقع، ويوضح: الهاجس الذي يسكن الكاتب هو الذي يحركه في اتجاهات الكتابة المختلفة، وقد تختلف هذه الهواجس من مرحلة لأخرى، بل قد يجد الكاتب نفسه مسكونًا بهاجس ما ولكنه يستعصي على الكتابة، بينما هواجس أخرى تكون أسهل منالًا. وفي حالتي تتنوع هذه الهواجس كذلك وتتفاوت من يوم لآخر، ولكن أكثرها تكرارًا قد يكون هاجس نقد الواقع ونقد التفكير الجمعي، ويأتي ثانيًا هاجس تبيان المعاناة الإنسانية التي لم تنل حقها من تسليط الضوء، إضافة إلى قضايا أخرى اجتماعية كأزمة الباحثين عن عمل والمساواة الاجتماعية.
من جميع ما سبق يمكن أن نخلص إلى أن الوظيفة النقدية أو التقويمية أو العضوية -بمصطلح غرامشي- للأدب تجاه الواقع قد تصحّ في حالات كثيرة، وإن كنا نتحفظ قليلًا في حصر وظيفة الأدب في هذه المهمة فقط. ومعلوم أن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يترك أثرًا في نفس قرائه، فليس بالضرورة أن يضطلع بشكل مباشر بمهمة الإصلاح الاجتماعي وتقويم الواقع، بل يكفي أن يؤثر في نفسية القارئ ويعدل، ولو قليلًا، في زاوية نظره للأمور حتى يمكننا أن ننسب إليه وظيفة التغيير.