
إدريس النبهاني: “المسرح كيانٌ حي ينبُض بتفاعلٍ دائم بين النّص والمُمثل”
أصـــداء /العُمانية
دائمًا ما يكون لكُل فعلٍ ردّة فعل، كما لصوت الطّفولة صدىً تعلو نغماته شيئًا فشيئًا فتكبُر مع الإنسان ليعيش آثارها واقعًا حقيقيًّا. ومن بين جنبات المكتبة وحُب القصص والروايات؛ وقراءته خِلسةً لطيّات كتاب “بين القصرين” لنجيب محفوظ وروايات أجاثا كريستي؛ استمّد المسرحيّ إدريس بن خميس النبهاني نائب رئيس فرقة مسرح الدن للثقافة والفن ومدير مهرجان الدن الدولي نزعة الروح الأولى في نزف الحرف على صفحات التيمّم نحو إيجاد واقع يرسمه مختلفًا عمّا عاشه، فذاكرة الفكر بها وطيدة وعميقة بقراءات كبيرة في سنٍ صغيرة بحثًا عن الأسرار بين الحروف -كما وصفها-.

يقول إدريس: “القصّة هي ساقية العنفوان الطفوليّ الذي كثيرًا ما شربناه في صغرنا ونحن نستاف صندل حكايات الجدّات، ونتراقص مع جدائل الماشطات وهنّ يُسرحن بناتهنّ على ضفاف الوادي، وهنا يُمكن القول إن القصّة القصيرة هي المُختبر الأول لسبك الحروف لديّ، من خلالها كُنت أشكّل أحلامي التي أراها مُستقبلًا واحتويها بشوقٍ ثم أمزّقها خوفًا”، وها نحن في المُستقبل الذي كان يحلُم به إدريس، وها هيّ أحلامه تتحقّق مُتنقلةً بخِفّة على خشبات المسرح.
ويُضيف: “في القصّة كما المسرح أعيشُ ذاتي التي أتمنّاها مُناضلة للقادم، وفي نقيضها عالقة بحميميّة الجدّات واحتوائهن لأرواحنا المتشكّلة بصدق قبل أن يغزوها الكذب، وقد كانت القصّة القصيرة وما زالت تُشبع فضولي حول التفاصيل الإنسانيّة الدقيقة، وتعلّمني كيف أستمع إلى أصوات صغيرة قد تبدو هامشيّة لكنها تحمل معانٍ كبيرة، وهو ما أثّر على المدى أن يتمثّل الحدث في المسرح لديّ إلى اهتمام بالتفاصيل التي تجعل الأداء حيًّا ومؤثرًا”.

فمن بين الحروف إلى خشبة المسرح، هذه اللّحظة التي يتحوّل فيها النّص إلى حياة تجعل منه تجربة إنسانيّة حيّة، تتجاوز حدود الكلمات لتصل إلى القلب والعقل معًا، يستأنف إدريس حديثه قائلًا: “لربما كان الخطّ الأوّل هو صرخة أمام واقعٌ كان بالنسبة للروح خطٌ يقود إلى أعراف مُجتمعيّة كان الحرف سلاحًا ضدها، ومن ذاك الزمان بدأت الحكاية وتمحورت فلسفة الصراخ الصّامت والصراع الدامي على الورق الذي أحبه ونيسًا لقول ما لا يمكن قوله”، وحين بزغت روح المسرح في جسده؛ لم يعُد النّص مُجرد حروف تُكتب على ورق ثُم تُرفع على المسرح، بل كان –كما شبّهه– كيانًا حيًّا ينبض بتفاعلٍ دائم وحميميّة مُطلقة بين النّص والمُمثل، والمُخرج، والجمهور، والفضاء الزمنيّ والمكانيّ.
لذلك، كانت تجربته العمليّة على الخشبة حجر الزاوية في إعادة تشكيل دماء صفحاته وحبر ذواته، فيُشير: “إنّ لحظة الكتابة لا تُعد انفصالًا عن صوت الجسد، وعن حركة المُمثل، وعن الصّمت الذي يُحيط بالكلمة، وعن الوقع الذي تتركه الحوارات في فضاء المسرح. النّص يتكوّن في الذهن كائنًا حيًّا يُولد من بين تفاصيل الحركة، وأنفاس المُمثل”، ويُؤكد النبهاني على أنّ وقوفه على الخشبة علّمه أنّ النّص وحده ليس كافيًا، بل لابد أن يُفهم مقرونًا في علاقته بالزمان والمكان والحضور.

ويُضيف: “أجدني في تجربة الكتابة مهتمًا بالنسق الإيقاعي، حتى يكون أكثر توافقًا مع الروح الحقيقيّة للمسرح، التي لا تتجسّد إلا حين يُصبح النّص جسدًا وروحًا متكاملين في العرض فالنّص هو بداية الرحلة التي لا تكتمل إلا حين يُستنطق على الخشبة، حين تُعانقه الحركة والصّوت والضّوء والظّل”.
وحين اقتربنا أكثر من فرقة مسرح الدن التي أصبحت اليوم إحدى العلامات المُهمة في المشهد المسرحي، يأتي وصف إدريس بأنها سفينة فردت أشرعتها عهدًا تُماجد به رؤية إبداعية، أسّسها شغفُ فتيةٍ آمنوا أنّ الأرواح مدٌّ شاسعٌ لحماماتِ الانعتاق نحو الجمال الزّاهي، إبداعًا لا يُماثله واقع، طريقه طموح وفلسفته إصرار وواقعه نجاح.
ويُعبّر إدريس في حديثه أن أصالة جوهر الفرقة عائلة اسمها فرقة مسرح الدن للثقافة والفن، مُستضيفة لأنفاس لا تتنهّد إلا إبداعًا، فهي لا تستعرض تجربة مسرحيّة محصورة في الإنجاز الفنيّ أو كمًّا من العروض، بل تستحضر مشروعًا ثقافيًّا متكاملًا أُريد له أن يستوطن الحراك المسرحيّ العُمانيّ، لا بوصفه صدىً لما يحدث، بل بوصفه أحد محرّكاته ومرتكزات بنائه التطويريّ.
ويوّضح: “فرقة مسرح الدن مشروعٌ يشتغل على بُنية الوعي الإنسانيّ، على فكرة المسرح بوصفه خطابًا اجتماعيًّا، وأداة مساءلة، ومرآة لا تكتفي بعكس ملامح المُجتمع، بل تمضي إلى فلسفة تفكيك تلك الملامح، وإعادة هندستها بفكر قوامة الاحترافيّة الفنيّة والثقافيّة التي تسهم في رفد المجتمع”.
وتواصل فرقة مسرح الدن سعيها بألّا تكون مُجرد فرقة موسميّة أو احتفاليّة، بل مؤسسة ثقافيّة عضويّة تتفاعل مع قضايا العُمانيّ ومُجتمعه والعالم جميعًا من خلال الحضور البيّن في المهرجانات المحليّة والدوليّة.
ويُضيف النبهاني: “نفخر اليوم بكوننا أصبحنا نمثل كيانًا يمتلك أدواته وسياقاته وامتداداته ومهرجانه الذي يُمثل قِبلة للمسرح من كل بقاع العالم، وهذا ما يمنحه قدرة التأثير الحقيقيّ، ليس فقط في المشهد المسرحي، بل في البُنية الثقافيّة الأوسع التي يُفترض أن يحويها المسرح ويشتبك معها”.
كما أشار إدريس في حديثه عن الفرقة: “فرقة مسرح الدن للثقافة والفن هي امتداد للذات ومسار حياة تشاركنا فيه الحُلم، والألم، والفرح، والتحديات. بدأنا كأصدقاء تجمعنا الرغبة في التعبير عن ذواتنا عبر المسرح، ومن فضاء للتجريب، تحوّل المشروع على مدار السنوات إلى كيان حيّ ينبض بمسؤوليّة ثقافيّة واجتماعيّة كبيرة قوامها الالتزام والتضحية والمُثابرة والتعّلم والبحث المُستمر عمّا بعد هذه اللحظة”.
وعند الحديث عن وظيفة المسرح في طرح أسئلة تتعلّق بالحريّة والهويّة، إن كان قوته الحقيقيّة تكمُن في التقاط التفاصيل الصغيرة التي تشكّل صورة المُجتمع؛ يُجيب النبهاني: “قوّة ما نقدمه على خشبة المسرح من أسئلة تتمثّل في قُدرة هذه الأسئلة على فتح نوافذ جديدة لفهم الإنسان والمُجتمع والبشريّة جمعاء، الحريّة، الهويّة، والعدالة الاجتماعيّة، بلا شك هي محاور كُبرى تشغل المسرح العربيّ والعُمانيّ، وأسئلة وجوديّة تدفعنا إلى التفكير في ماهيّة الإنسان والمُجتمع الذي ننتمي إليه، لكن في الوقت نفسه، لا يمكننا تجاهل التفاصيل الصغيرة التي تبدو للوهلة الأولى هامشيّة، لكنها في حقيقتها لبنات البناء التي تتشكّل منها الصورة الكُليّة”.
ويُضيف في هذا السياق: “التفاصيل اليوميّة المُتمثلة في الحوارات الصغيرة، والتفاعلات الشخصيّة، هي نسيج الحياة الحقيقيّ، الذي يعكس أعمق التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة. وعندما يلتقط المسرح هذه التفاصيل ويُعيدها إلى الجمهور، فإنه يقدّم صورة حيّة، نابضة، تُحرّك المشاعر وتُثير الفكر في آنٍ واحد لذلك فالمسرح في عُمقه هو الخط المُمتد بين أسئلة الروح الكبرى وتفاصيلنا الدقيقة – هو إذن فضاء حيّ، يلتقط نبض المُجتمع ليُعيد صياغته في شكل فنيّ يُتيح للجمهور فرصة التفاعل، والمساءلة، والمُشاركة في بناء الوعيّ، وهذا ما يجعل من المسرح فعلًا مستمرًا، لا ينقطع، يُرافق تطّور المُجتمع ويؤثر فيه”.
وعند الاقتراب من الواقع المسرحيّ والواقع المُعاش، فلابّد من وجود مساحة التقاء أو تباين بين ما يُقدّمه المسرح العُماني والعربيّ من قضايا وما يعيشه المُجتمع فعليًّا، يُبيّن النبهاني: “شخصيًا أرى أن المسرح والعالم الواقعيّ وجه أمام مرآة وإن خصّصنا الأمر في واقع مسرحنا العُمانيّ نجده يحمل ثقلاً ثقافيًّا واجتماعيًّا خاصًّا؛ فهو يستقي موضوعاته من حياة الناس اليوميّة، من عاداتهم وتقاليدهم، من طموحاتهم ومآسيهم، كما أن الواقع المعاش في سلطنة عُمان مثله مثل بقيّة البلدان العربيّة، مُعقد ومتعدد الأبعاد، ومُتغير بسرعة بفعل التحوّلات الاجتماعيّة، والاقتصاديّة والسياسيّة والحضاريّة”، وهنا يكمُن التحدّي الأكبر للمسرح أن يختار ما يستحق أن يُسلّط الضّوء عليه، وأن يطرح القضايا التي تمُس نبض الناس دون أن يغرق في السطحية أو المثاليّة الزائدة.
يقتبس إدريس في حديثه مقولة الكاتب سعد الله ونوس: “المسرح لا يجب أن يكون صورة جميلة للواقع، بل يجب أن يكون وجعًا يصرخ في وجهه”، ويفسّرها بقوله: “هذا الموقف يُعبّر بدقّة عن جوهر المسرح التنويري، فالمسرح ليس فقط مرآة تعكس الواقع كما هو، بل هو أداة فعّالة للتغيير، قادرة على تحريك الوعي وتحفيز الحوار المجتمعيّ. وفي المُطلق والتأكيد فإننا نرى المسرح مرآة صادقة لكنه ليس سلبيًا، بل هو أداة فاعلة لتحريك الوجدان، لمساءلة الواقع، ولفتح نوافذ الأمل أمام المُجتمعات، سواء في سلطنة عُمان أو في العالم العربيّ أو في العالم أجمع”.
وعند الحديث عن المسرح والهويّة العُمانيّة، ينفتح أمامنا أفقًا رحبًا للتأمّل في سؤال جوهري – كيف يُحافظ المسرح على خصوصيّته وهويّة جذوره العميقة، وفي الوقت ذاته ينفتح على العالم ويتجاوز حدود الجغرافيا؟ يُجيب إدريس: “المسرح العُمانيّ ثريّ في تراثه من تقاليد سرد القصص، والموسيقى، والرقصات الشعبيّة، إلى لغة الحوار الحيّة التي تعكس روح العُمانيّ، هذا التراث هو كنز لا بد من الحفاظ عليه وصونه، لأنه يشكّل هويّة المسرح ويميزه عن غيره، ولكن في المشهد ذاته فإن توقّف المسرح عند حدود الفولكلور فقط، سيُحصره في دائرة مُغلقة، وسيصبح عرضًا للماضي دون حراك يُذكر”، عليه من الواجب علينا –كما أكّد إدريس النبهاني- مد تلك الجسور للانفتاح على الآخر بوعي، فالحفاظ على الخصوصيّة العُمانيّة في المسرح لا يعني الاقتصار على التلّبس في استعراض الطقوس والعادات فقط، بل يتعلّق أيضًا بفهم الروح العُمانيّة الحقيقيّة، المتمثّلة في قيم العُمانيّ، وتطلعاته، وصراعاته الداخليّة، في مواجهة التحولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة التي يشهدها المُجتمع، وحين يُقدم المسرح هذه القضايا برؤية فنيّة معاصرة، فإنه يستطيع أن يصل إلى القلوب بعيدًا عن الحواجز الثقافيّة والجغرافيّة.
ويُعزّز إدريس في حديثه أنّ المسرح العُماني يُمكن أن يحافظ على خصوصيته وهو يطرق أبواب العالم، إذا ما تحرّر من أساليب التقديم النمطيّة، واستضاف التجريب والابتكار، مع التمسّك بالقيم والجوهر الثقافيّ، وهذا يتطلّب من المسرحيين العمل بوعي عميق، واستثمار خيالهم الفنيّ في إيجاد نصوص وأداءات تحمل بصمة عُمانية واضحة، لكنها في الوقت نفسه تتصل بالإنسانيّة جمعاء. وهنا يُمكن الجزم بأن المسرح العُماني قادرٌ على أن يكون فريدًا وعالميًا في آن واحد، إذا ما استطاع أن ينسج من خصوصيّته جسورًا تمتد إلى عقول وقلوب المشاهدين في كل مكان، دون أن يكون أسيرًا لبوتقة مقيدة للإبداع وإنما منفتحة نحو فلسفة إحياء الموروث بروح العصر.
وفيما يتعلّق بما تمر به المنطقة العربيّة من تطوّرات؛ وما إن كان المسرح قادرًا على أن يكون صوتًا موازيًا لأدوات أقرب للجمهور كالإعلام والوسائط الرقميّة؛ يوّضح النبهاني عن أنّ المسرح يُتيح للجمهور أن يعيشوا معًا في لحظة واحدة من التأمّل والاشتباك الذهنيّ والوجدانيّ، بطبيعته هو فن التلاقي المباشر، فن الحضور الحيّ، حيثُ تتلاقى الروح والفكر في فضاء واحد مشترك، لا يمكن أن تحل الوسائط الرقميّة أو الإعلام محل هذا التفاعل الفريد الذي يقدم تجربة إنسانيّة مُتكاملة.
ويُضيف: “ربما جمهور المسرح موسوم بالمحدوديّة نسبيًّا، لكنه يمثل نواة حقيقيّة للتغيير، أنسنة المسرح واحتواءاته لذواتنا لا تقاس بعدد المتفرجين، بل بمدى قدرته على صياغة لغة مُشتركة، وفهم عميق للواقع، واستخلاص الرؤى التي تحرّك الفكر والوجدان، كما أنّ محدوديّة الجمهور تخلق من العرض مساحةً حميمية، تفتح أبواب الحوار الصادق والعميق، وتُحوّل المشهد المسرحيّ إلى مختبر حي للأفكار والتجارب الإنسانيّة”.
فمن وجهة نظره يرى أن المسرح انتصر في التعاطي مع مفردات التطوّر ومتغيرات التقانة، فمن خلالها وعن طريق توظيفها ما زال المسرح قادرًا على أن يكون صوتًا مؤثرًا، وإن لم يكن صوتًا مسموعًا على نطاق واسع كما هو حال الإعلام الحديث، فهو صوت يترك أثرًا عميقًا في النفوس، ويصنع وعيًا متينًا ومتجذرًا يغوص في عمق القضايا، يطرح الأسئلة التي لا تجرؤ وسائل الإعلام على طرحها، ينقل معاناة الإنسان وشجونه بصورة أدبيّة وفنيّة راقية، فنجاحه لا يُقاس كمًّا، بل بمدى الأثر الموشوم في دهاليز النفوس وأروقة المُجتمعات.
ويُشير بقوله: “العالم المسرحيّ في سلطنة عُمان والعالم العربيّ اليوم يعيش تحولًا في طرق العرض، من خلال البث المُباشر، والعروض المُختصرة، والمنصّات الإلكترونيّة، التي تُسهم في توسيع دائرة الجمهور، وفي المُجمل لا يمكن المقارنة والقول أن المسرح ليس منافسًا للإعلام والرقميّة، بل شريك في صناعة الوعي والتغيير، لأن المسرح في زمن الأزمات يظل المكان الذي يمكن أن نجد فيه صوت العربيّ الحقيقيّ، بصراعه وألمه وأمله”.
ومن هنا، يأتي تأكيد إدريس النبهاني على أهميّة المسرح المدرسيّ – بعيدًا عن متغيرات الحياة والتحوّلات الرقميّة – ليُسهم في تكوين عقليّة الطفل العُمانيّ والعربيّ، ففي فضاء المُؤسّسة التعليميّة تبدأ رحلة الإنسان في اكتشاف ذاته، نحو تعلّم فن السؤال والنقد، نحو استيعاب الحياة بألوانها المُتعدّدة، فيُؤكد في حديثه عن هذا الجانب: “المسرح المدرسيّ ليس فقط فضاء للعرض، بل هي حلقات عمل لبناء شخصيّة، حيث يُمنح الطفل الفرصة ليتقمّص أدوار الحياة، ليختبر صراعات الإنسان، وليكتشف ذاته في ضوء النقد الذاتيّ والآخر”، كما يُبرهن: “قال الكاتب توفيق الحكيم: (المسرح هو مدرسة الحياة التي لا تُغلق أبوابها أبدًا)، وهو تأكيد أصيل بأن المسرح جزءًا لا يتجزأ من العمليّة التعليميّة، يُمكّن الطفل من استضافة قيم التسامح، والابتكار، ومن هنا فإن اشتغالي المسرحيّ يسير في خط موازٍ للبُعد الوظيفيّ المُمارس الذي من خلاله أسعى لترسيخ فلسفة تربويّة على أهميّة الحضور المُستمر للمسرح في العمليّة التعليميّة منهجًا ونشاطًا، وهو الرسالة الأسمى التي ننشدها من خلال الحراك النوعيّ والمكانة التي يتبوؤها مهرجان المسرح المدرسيّ محليًّا وإقليميًّا وعربيًّا كتجربة تسوقها وزارة التربيّة والتعليم بيت خبرة في التعاطي مع غرس الثقافة المسرحيّة لدى أبنائنا الطلبة، مؤكدين على أن المسرح المدرسيّ ليس فقط تدريبًا على الفن، بل هو بناء لعقول وأرواح تُسهم في صُنع مستقبل أفضل، مستقبل يليق بالعُمانيّ والعربيّ، صاحب الرؤية والحرف، صاحب الصوت، وصانع التغيير برسالته المؤكدة على المواطنة الصالحة سبيلًا للبناء”.
ويقول النبهاني: “قضيتي الأولى والحاضرة دائمًا بصدق هي الإنسان، أجد في معاناة الإنسان الفرد مركزًا دائمًا لاهتمامي، لأن المسرح يظل الفن الذي يفتح نافذة على النفس البشريّة بكل تعقيداتها، تناقضاتها، وآمالها المبعثرة. الإنسان الفرد في زمننا يعيش حالة من الاغتراب، تضجّ الأرواح في متاهاتها صارخةً بحثًا عن الحريّة والانعتاق والتصالح مع الذات ومع الآخر، والكاتب المسرحي يستفزه هذا الصراع الداخليّ الذي يتجاوز الشخص ليصل إلى ما هو كونيّ في جوهره. الإنسانيّة هديرٌ عالٍ من أمواج الصراعات المتلاطمة في مُجتمعاتنا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا”، فالمسرح –كما وصفه- هو الصّرخة التي تكسر حاجز الصّمت والسكوت عن المسكوت عنه، والمسرح هو ميدان دوائر النقاش للرقي بالمُجتمعات والنهوض بها يطرح أسئلة تستقي إجاباتها من أنفسنا، وننثر بذور الوعي التي قد تثمر يومًا ما تغييرًا حقيقيًّا.
وفيما يخص التحوّلات الرقميّة وتغير ذائقة الجمهور، بات لزامًا على المسرح ألّا يُغلق أبوابه في وجه العالم الحديث، بل عليه أن يفتح نوافذه على اتساعه، يستقبل نفحات الحداثة وتعبيرات التكنولوجيا، ليس كزينة فارغة أو رداء جديد، بل كأدوات تُثري الفعل المسرحيّ، تضيف طبقات من الإحساس والعُمق، وتوجد فضاءات متجدّدة للحوار بين النص والجمهور.
يُضيف إدريس بقوله: “إنّ الأدوات الرقميّة من إضاءة متطوّرة، وتصميم صوتيّ مبتكر، وتقنيات العرض التفاعليّة، وحتى دمج البث المُباشر، يمكن أن تكون مكمّلة وموسّعة للغة المسرحيّة إذا ما استُخدمت بحسٍّ فنيٍّ واعٍ. يمكنها أن تضيف طبقات من العُمق البصريّ والسمعيّ، وتفتح نوافذ للحوار مع جمهور أوسع، دون أن تنتقص من تجربة الحضور المباشر. وهنا يكمن التحدي الحقيقيّ: أن يُحافظ على جوهره القائم على الاحتكاك الإنسانيّ المُباشر، وعلى الشعور باللحظة الحيّة التي تُبنى فيها التجربة”.
كما يشير: “التجديد لا يعني القطيعة مع الأصالة، بل هو بناء جسر بين الماضي والحاضر، بين التقليد والابتكار، ونحن اليوم على مستوى مسرحنا العُمانيّ والعربيّ أمام فرصة تاريخيّة لاستثمار هذه الأدوات الجديدة لإثراء تجربته، علينا أن نطوّع التقنيّة كوسيلة تعبير لا غاية في حد ذاتها، وأن نفتح نوافذ التآخي مع المُتلقي في عصر التحوّلات الرقميّة مع المحافظة على سحر اللّحظة المسرحيّة الفريدة لنعيد اختراع هذا الجمال الفنيّ الحيّ بلغة وأدوات تضمن لنا ديمومة حيويته وعصرتنه التي تصل برسالتها المؤثرة إلى وجدان جمهوره ومحبيه. التجديد الحقيقي هو الذي يُحيي الروح ولا يقتلها، الذي يبني جسرًا بين تاريخنا المُشبع بالمعاني وأفقنا المفتوح على المستقبل”.
وكونه أحد المشتغلين على المسرح في سلطنة عُمان، يوضّح إدريس النبهاني أنّ مسرحنا العُماني يقف اليوم على مُفترق طرق حاسم بين استضافة جذور ماضٍ أصيل ومستقبلٍ يتوق إلى التحليق بروح التجديد والابتكار، فهو جذع شجرة غاف، متين وثابت، لكنّه في الوقت ذاته يحمل في أعماقه براعمٌ تتطلّع إلى نورٍ أكثر إشراقًا وبهجة، إلى بناء مشروع فكريّ وجماليّ يُعيد تشكيل هويته الفنيّة، ويرسم ملامح حضوره في المشهد الثقافيّ العربيّ والعالميّ.
فمن حيثُ نظرته لآفاق المسرح العُمانيّ في الفترة القادمة، يُشير إدريس في حديثه: “لقد مرّ المسرح العُمانيّ بمراحل تطوّر متدرجة، وشهدنا ولادة أعمال غنيّة تأثّرت بجذورنا الثقافيّة والهويّة الوطنيّة، ولكنّنا الآن في حاجة إلى قفزة نوعيّة، تجعل من المسرح منصة إبداعية يتفاعل مع فلسفة الإنسان وصراعاته، ويساهم بفعاليّة في صناعة وعي جديد، كما هو حال مسار المسرح في العديد من البلدان التي استطاعت أن تُجدد رؤاها وتتناغم مع العصر”، كما يُقّر استكمالًا لما بدأ: “هذا المشروع الفكريّ والجماليّ الذي نتطلّع إليه، لا يعني مُجرد إنتاج مسرحيّ مُتقن، بل يعني تأسيس رؤية شاملة، تدرك المسرح كفعل ثقافيّ واجتماعيّ عميق، يمكن من خلاله إعادة قراءة الواقع والذاكرة والتراث، وتحويلهما إلى تجربة معاصرة تعبّر عن قضايا العُمانيّ في سياقه المحليّ والعالميّ، ولربما ما نشهده خلال هذه السنوات من تطاول منارات المجمّع الثقافيّ في البنيان والذي يتوسّط رائعة عقده مبنى المسرح الوطنيّ لهو استشراف إيجابيّ نحو هذا المشروع النابض رؤيةً ووعيًا بحكمة قائد مفدى يؤمن بالثقافة والفنون منهجًا أصيلًا لبناء الحضارات المعاصرة”.














