أصــداء منوعةقصص ، روايات

رواية وادي الرمال .. الحلقة 29..

حـمـد الـنـاصـري

كـاتـب و قـاص

 

رواية وادي الرمال .. الحلقة 29..

 

انفرد الرجل الأشيب الذي يتكئ على عصى كبيرة وانزوى بالرجال الذين لحقوا به، إلى ركن قصي وتخلّى عن جموع المُختلفين معه، فلا يراهم أحداً.. وقال لنفر من أصحابه سِراً:

ـ الصمت لا يَزيدنا إلا رهقاً، والغُموض قد فضح كثيراً من رجالنا، والسكوت عن الحق باطل، وشُعوري بالصَمت يأكلني في أعماقي، فلا أستطيع السكوت عن الحق وأرى غيري من الناس يتعذّب ويزداد رهقاً، وكلما ازدادت الريبة في الرجال كلما ازداد طحن خصومهم ولم يجد المتأمّل فيهم، إلاّ أنْ يزداد عجباً.

قال رجل في بياض عينيه حُمرة، وكان مُتكئاً فاعتدل في جلسته، وقد أكّد على قول “حامد” ذي اللحية الشائبة، وقال:

ـ لا ريب، أنّ ذا العينين الغائرتين قد سرق مزرعة القريتين؟.

قال “حامد” مُتوكأً على عصاً غليظة:

ـ البدء بتأمين احتياطاتنا تُفرضه الأوضاع بالوادي، وإبلاغ الجد الكبير بخبر اعتزالنا واجب، واعلامه بالأسباب، فقد كشفنا أمر سرقة مزرعة القريتين جهراً، فكان هروبنا من ذي العينين الغائرتين، فيه ما نُخفيه عن سارق مزرعة اليتيمين.

وإننا نُحيطكم علماً بأننا نتخذ من مكاننا، قيادة أمرنا وسنكوّن قيادة تَتبعنا، وسنشرع بإعادة الحقّ إلى نصابه.

فمزرعة القريتين لليتيمين ولا يُمكن مُقايضتها بأفواج الغُرباء في أرض وادي الرمال، وأنّ عودة الحدود المشتركة بين قرية الوادي وقرية مجن أمر لا بُد منه لضمان استمرارية الاستقرار والتعايش بين مُجتمعات وادي الرمال.

قال الرجل الذي في عينيه بياض:

ـ إني أرى ما لا تَرون.

قاطعه رجل عُرف بأنه مهووس بحبّ التراث:

ـ ماذا ترى.؟ قُل ولا تكتم شيئاً.

ـ أرى أن الناس قد غُلبوا على أمرهم، وأضحى الواحد فيهم، صغيراً أو كبيراً لا يُفرّق بين الخطأ وبين الصواب ولا بين مُتشابهات الأمور ومُشتبهاتها.

انظر كيف نكص أبو العينين الغائرتين عن الحق، وقد تراءتْ المَسألة هيّنة وما هيَ بهيّنة ولا سَهلة أبداً.

ذلك الرجل الذي نكص على عقبيه وارتدّ مُتقهقراً عن الحق.؛ فذلك النكوص رجوعاً عمّا حدّثنا به من عزم.

قال الرجل الذي عُرف بحبّ التراث:

ـ لا أقول كقولك أبدا.. فالكلام مأخوذ بالتشابهات، والكلام الجميل غير مأخوذ من النور حتى وإن اختلف مفهومه، تبقى دلالته وجه من وجوه التشابه، وتكون تشابهاته كنور من قول جميل.

قال الرجل الذي في عينيه بياض:

ـ يا رجل، خفّف علينا فلسفتك.. فلا أحد يَفهم تشابهاتك ولا حتى كلماتك الجميلة.؛ فأنْ تُحررّ العقل خير من فلسفة تشابهت على وجهٍ أنت مأخوذ به.

أنا اختلف معك في الأفكار والآراء التي هيَ من أهم الوسائل للوصول إلى العقول، واختلافنا طبيعي جداً.

والجد الكبير، له تأريخ عميق في فلسفة التراث، فقال في كتابه التكوين :

ـ لا يزال الناس مُختلفين حتى ولو اجُتمعوا على قلب رجل واحد، ولذلك خُلقوا ليكونوا مُختلفين فيما بينهم.

قال الرجل المأخوذ بحبّ التراث:

ـ إنّ صِدام التقاليد وارتباطها بالمكان، أمر بالغ الأهمية، إنها تُمثّل هوية تكوينية.

كحال الفنون التي لها أثر عميق في وجدان الانسان؛ فأيّما هويّة تميّزت بأثرها وكانتْ خصبة بموروثها وتكللّت بتأثير ثقافتها.؛ حازت على رضا السائرين وإعجاب اللاحقين.

أمّا فيما يخص الجد الكبير، والنص الذي أوضَحته من كتاب الجد الكبير، فالناس يختلفون في أفكارهم وآرائهم وفي نشأة عقولهم، ولو جمعت الامزجة في تكوين واحد، فالبشر هنا يكونون بلا اسْتقلالية في الرأي والفكر ولم تتفرّد شخصياتهم بطابع يختلف عن الآخر ولا تتميّز عقولهم عن بعض.

إذن نقول إنّ الاختلاف في البشر طبائع تكوينية، والإصْرار على البقاء، من تأثير العقل وكذا الحال في الاختلاف يعود تأثيره من نشأة العقل وطُغيانه على سائر موجودات الجسد.

سكت برهةً ثم أردف:

ـ أمّا حول ما يتعلّق باسترشاد وتوجيه سيدي الجد الكبير، فمن الضروري بمكان أنْ نُبلغ الجد الكبير عن الضرر الذي أوقعه رجال القرية الناشئة على الوادي وبالأخص قرية مجن الكبرى.. ولا حرج أنْ ندعوهُ لدعم جذور التكوين.

إلتزاماً مِنا بمكانة الجد الكبير وتعهدنا بما قرأناهُ في كتابه:

ـ تاريخ قرية الوادي عَتِيد وصَلب وعميق الجذور، ذلك العُمق شغل كثيراً من رجال القريتين.

وقال في موضع آخر من الكتاب:

ـ إنّ قرية مجن، ستشهد موت التاريخ ولكنها ستنهض بمفهوم جديد بالوادي ذلك المفهوم سيشكّل مُفرّقاً على ضفاف الوادي، ولا يُمكن بحال الكفّ عن المُعتقدات، فالناس في الوادي والتاريخ يستنهض الرجال ولكنه لا يعود.

والجوهر الحقيقي لحياة الوادي والرّمال، كالشمس والقمر، مكانتهما رفيعة عالية، ولكل منهما جوهر وشأن، فالشمس تُضيئ النهار وتنزع ما بقيَ من سواد الليل.

والقمر يُضيء بنوره الليل فيَبعث الامل بالديمومة والنشاط.

قال ـ أزهرـ الحفيد الاقرب شَبهاً إلى الجد الكبير بالنطق وبحركة الجسد:

ـ الأشرار لا يكفّون عن شرورهم، وذلك ما يُغضب سيدي الجد الكبير، إنهم لا يَمتنعون عن سرقة الموروث، فمن الخطأ أنْ يمرّ ذلك بدون عِقاب.

إني أرى أنّ إثارة القضية وجعلها أمام أنظار الجد الكبير هو الرأي الصائب، خوفاً أنْ تتكرر.

وإني لأخشى من أؤلئك الذي يُجعجعون بالخير والفضيلة وهم لا يَكفّون عن الفساد والرذيلة.

إنّ السرقة، وأخذ مال الغير بالقوة ونشر الفوضى، كل ذلك من ضُروب نزغ الشيطنة.

قال وليد مُكملاً حديث أزهر:

ـ كلامك عين الصواب، فالسرقة جُرم بغيض، وأنا أرجو من ـ جدي الكبير ـ تشديد عُقوبتها، لأنها تدلّ على فساد كبير وضررها أكبر إذا بُسِطت في مُجتمع وادي الرمال.

وأمّا ما أكدهُ الشيخ حامد، بأنّ مَزرعة القريتين، هي موروث الوادي أو هي إرث لقرية مجن التاريخية، فالأمر يبدو مُتداخلاً نظراً لوقوع المزرعة في رمال القريتين.

ويومئذ كانت الرمال تحكمها حركة التنقل والراحلين وتلك قضية كبرى لا يَنبغي السكوت عنها ويجب أنْ تُحلّ بين رجال القرى وبالأخص القريتين.

وأمّا عن الغُرباء فهم لم يأتوا إلاّ لبغيضة ولأجل أنْ يتفرّق الناس لفائدتهم ولكيْ يكون الشقاق بين المُجتمعات هو السبب الرئيسي ولفرض تدخلهم في مُجتمع الوادي وضَمان اسْتمرارية بقائهم في وادي الرمال.

ونحن في هذا المُجتمع، نحثّ على التمسّك بالقيم والأخلاق والفضيلة، وأمّا تُرّهات الحاقدين ودناءة الفاسدين وسيئات السارقين، لا تُمثّل موروث رجال الوادي ولا مُجتمع الرمال.

وحول ما تحدّث عنه، بعض الرجال عن الرجل المُسمى “عون” بأنه هو أوّل من سهّل أمر السرقة واعتبرها حقاً مفروضاً.

فقد قِيْل لي وعلى لسان أحد الثّقات:

ـ بأنهُ فَعلها عن عَمْد ومن نفسه الامّارة بالسُوء وبدافع التمرّد.

وقال قولة مَشهورة، ضمّنها بهذه الكلمات:

ـ نُنكر الحقيقة لأنها لا تُعنينا وحين نَبلغ مُرادنا نَعْمُد إلى الواقع السَهل.

فتلك الفلسفة ضارّة بعلاقات الناس ببعضهم وكلامه يفتقر إلى المسؤولية.

فالمسؤولية الحقيقية هي ما ينفع الناس وما يَمكث في حيواتهم ويَمسّ مَعيشتهم.

وكان رأيْ أخي ـ أزهر ـ صحيحاً وهو مُحقّ في قوله وكلامه، إذا أُعِدّ ذلك القول، ضرباً من ضُروب نزغ الشيطنة.

فقد أنكر “عون” مسؤوليته تجاه الحق والفضيلة، وغلب عليه النكران والتمرد للسيرة البعيدة.

علا صوت رجل من مجموعة الـستين نفرا الذين لحقو بـ “حامد”، وأشار بسبابته إلى المَخبأ العميق الذي اتخذوه وجماعته مَلجأ عن أعين أعدائهم. وقال:

ـ انظروا، كان ذلك الفِعْل، فِعْل المُضطر لا وسيلة العَاجز، وما اتخذناه من وسيلة وتدابير صارمة، كان ذلك لفائدتنا وهو ما ينفع جماعتنا، خوفا أن يُكتشف أمرنا.

أحسّ وليد، أنّ الرجل يُريد أنْ يشقّ عصى الجماعة ويُفرّق بينهم وإضعاف قيادته بين الناس، فقال بهدوء:

ـ كنا نتحدث عن ذي العينين الغائرتين وسُوء نيته تجاه قرى وادي الرمال، وما انطوتْ عليه نيته، من خِداع مُتعمّد وغش، واشعال فتنة بين القرى، والاتفاق مع الغرباء.؛ ممّا اضطركم إلى هجرة الخوف، فتلك مأخوذة من حُكم المُضطر.

قال “حامد” في ضيق:

ـ ليس بغريب على ذلك الرجل تلك الأفعال المُشينة، فهي من قرائن أخلاقه وتعامله، كما أنّ التمرّد ليس بكبير عليه، إنه من نسل ” عُون” الذي تمرّد على أبيه، وقتله.

قال وليد وهو يشد نظره إلى حامد:

ـ تحدثتُ وأخي “أزهر” وكان الرأي الذي اتفقنا عليه، أنّ ذلك الفِعْل مُشين ومن فِعْل الشيطنة.

فقال حامد غاضبا:

ـ أنتم تتحدثون عن الإنكار والتنكّر كسيرتين بعيدتين، وأنا أضفت إلى حديثكم، بأنّ السيرتين البعيدتين، بإنكارها وتنكّرها، تحققت على يد” عُون” الذي ظنّ ومن معه، بأنّ لهم الغلبة بأفعالهم وبسوء أخلاقهم.

قال الرجل الذي عُرف بهوس التراث:

ـ التاريخ يا سيدي سيرة بعيدة، يكتبها المُنتصر ويُنصفها العادل الامين.؛ نحن جميعاً مسؤولون عن التاريخ وعن عدالته، وإنْ كانت بعض المَواقف اُخذت من غبار ذلك الزمن، رُبما، من أجل بقاء حقيقة أو كشف نيّة ما.

ولكنْ ظلّت استنكارات سرقة التراث تُراوح مكانها، فقد تمّ فصل التاريخ عن التراث بعقلية جافة، وأيّ موروث هو مَكسب تاريخي، وذلك المكسب هو الوجه العميق للتراث.

ونقول بأنه يتوجّب على العقلية التاريخية أنْ تتعمّق أكثر في فلسفية المرجعيات، فكلّ التنظيرات الفكرية تُراث على مرّ الزمن، ثُم ما تَلبث أنْ تتحوّل إلى مرجعية فكرية.

حتى ولو تحوّل المكسب التاريخي إلى مُكتسب، وأبْدع فيه الرجال بنقاوة، لا يُمكن أنْ يُعَد التراث كسلعة “بيع وشراء” وحمايته واجبة تُفرضها القِيَم المُستوحاة من فِعْل الرجال الأنقياء، ونقرأ في كتاب الجد الاكبر “منْ أضرّ غيره اكتسب ضُرّه ، ومن عَمِل خيراً لقيَ مِثْله”.

قال وليد مُصدقاً كلام الرجل المهووس بجمع التراث ومُثنياً عليه:

ـ كان حديثك عن الموروث ممُتعاً.. وأنا أزيد على قولك، أنّ الحمق يُصيب الإنسان بالخلل والاوهام.

توقّف بغتة ثم نظر إلى الجمع الذين تحلّقوا حوله، وقال:

ـ أيها الجمع المُبارك، اسألكم بحقّ السماء، ما الذي تتوقعون حدوثه إنْ اسْتمرّ الوادي على هذا المبدأ؟.

قال الشاب أزهر:

ـ خلخلة وزيف؟ .. وتدمير لقرى الوادي وضياع للموروث، وكما يبدو لي، إنْ لم يَقم الناس بالمُحافظة على بيئتهم، فسيحدث تغييراً على اليابسة واختلال في الوادي.

قال حامد بلطف، والتفت إلى الرجل الذي عُرف بهوس جمع التراث:

ـ ما الذي تَعنيه يا سيّد “عبدالله” بعبارة “المحافظة على التراث” فهل تقصد بتكوين حماية، او وثيقة يعتمدها الجد الكبير.

وفي هذه اللحظة، صوّب نظره ناحية وليد، وقال:

ـ سيدي وليد تحدثت، قبل قليل عن الانكار والجحود، ولم تزل قضية الوادي تتأرجح بين شِدة الإنْكار وخلخلة الجحود.

فلماذا لم تُوجه رسالتك الإنسانية، حول قضية سرقة التاريخ وجحود بيئة المكان.

وكما يبدو لي، بأنّ الحديث عن حماية التاريخ، التي أشار إليها، السيد عبدالله،هي بحقّ عُمق مكين، فحماية التراث حماية لعمق المكان.

ثم التفت إلى “أزهر” وابتسم:

ـ كل ما ذكرته.. كان جميلا جداً، وأزهرتْ مُفرداته بالذكر الاجمل لسيدي جدي الاكبر، وأقول، نعم، فـ” الفِعْل المُشين يَنمّ عن جهل بائس”.

قال رجل ذو عينين عسليتين تعود جذوره التاريخية إلى القرية المكينة:

ـ أنا من حيث عرفتم، إبن الوادي، والشيخ عبدالله يعرفني بأني لا أجامل أحداً.

فرجال قرية الوادي وإلى جانبهم رجال القرية الساحلية أقوياء بتراثهم أحياء بتاريخهم الضارب في عُمق الوادي، هم رجال ترسّخت مَبادئهم في الحياة ليسوا كالذين تاهوا عن حقيقة أصْلهم في وادي الرّمال وأمّا القريتين المُتجاورتين العتيقة والمَكينة، وإلى جانبهما قرية الوادي فتاريخهم مُشترك، وجذورهم مرجعية واحدة.

أسوق ذلك وفق ما قرأته في كتاب الكون الأول وصحيفة المجد، للجد الأكبر: “أنّ القريتين عميقتا التاريخ وعميقتا الجذور في الرمال، وكانتا امْتداداً لبعضهما، وقد انتصرت قرية الوادي في الزّمن الغابِر وهي أوّل من بدأت بتكوين عُمق محبّة بين القريتين.

وكأنّ قرية الوادي قد توسّطت بينهما كحبل سري يربط القريتين العميقتين، فتشابهت السِمات وظهرتْ تشابهات في ملامح الوجوه وتقاربتْ الأصول وتداخلت المنافع.

وإذا أسْعفتني الذاكرة بحصر ما قرأته في نصوص الاسفار الأولى، واعتذر إنْ غلبني الظن، فالظن الحسَن فيه خير.

انقل لكم ما قرأت في نصوص الاسفار” أنّ بثلاثيتهم القريتين والوادي ـ اعترتهنّ بيئة مكانية لا حدود لها ومع مرور الوقت ظهرتْ تشابهات بين الاشخاص بفعل التزاوج ونشأت لغة التقارب ويُقال أنها اختلطت بلغات قديمة وحديثة وتشكلّت بفعل ذلك التقارب جذور العلاقة المَتينة.

ومنذ غابر الازمان تغيّرت لغة التّخاطب وتبَدّلت الأحرف وتحرّكت اللغة المشتركة، وتباينتْ مُترادفاتها، وأحدثت تغييراً في ظواهرها كالإقلاب والإبْدال في لُغة القرية العتيقة.

بينما تجد في لُغة القرية المَكينة او القريتين معاً، إحداثيات كاشْتقاق وإقْلاب وإبْدال في ظواهر اللُّغة السّائرة عكس قرية مَجن وسواحلها فقد عُرفت لغتها بكثرة الشنشنة في الحروف والكشكشة في الكلمات والبعض الآخر يُكسكس فيهما معاً، وكما يبدو أنّ تنوع مخارج الصوت، حتى في القرية الواحدة.

ويُقال إنها وصلت إلى مضارب البَدو والرّاحلين وقطاع الطرق واختلطتْ أجناس وأعراق بعضها في بعض، نظراً للأسباب التي تعرفونها ووقوع بعض قرى مجنْ على البحر وكما يُعرف تاريخياً، عند البعض، أنّ انحدارات وهضاب استوتْ وتكوّنت كانتفاخات على ساحلها، عُرفت كحدود باسم قرى ساحل مجن.

ومع مُرور الزمن حدث تغييرات جذرية في السلوكيات وفي كلّ إدراكات أنماط المعيشة في وادي الرمال.

سكت قليلاً، وسحب نَفَساً ثم زفرة:

ـ أتذكّر فلسفة تاريخية قالها أحد الرجال وكان من بين المُجتمعين هو الشيخ عبدالله هذا، ومدّ أُصْبعه إليه، وحين سأل الرجل سيدي الجد الكبير، لماذا الاهتمام بالتاريخ؟.

فأجاب الجد الكبير:

ـ التاريخ أمانة في أعناقنا وسَنُسْأل عنه يومئذ، أمام الجد الاكبر..؛ فالتّاريخ جُزء من عزم الرجال.

سكت ولم يبزم بعدها بحرف.

حرّك وليد رأسه ايجاباً وقد زمّ بوزه وأطبقهما، وقال:

ـ جدي الكبير فاتحة القرية العتيقة وبابُها المكين ومَسار تُراثها وعزّ شموخ الرجال.

وقرية الوادي، لا تختلف عن القريتين اللتين جحد رجالهما إكرام السَماء وفضل الرمال وطغوا فيها وبَغوا في الدّيار، وكان وعداً مغضوباً عليهم.

ولا تزال الاحداث تتري وتتوالى على قرى وادي الرمال ولا ريب أنّ الواقع يشهد انحدارات في الاخلاق ويُلاحظ ظهور كثير منها.

ولن أزيد عمّا قاله جدي الكبير:

ـ أنّ واقعنا سيشهد في قادم الزمن تنازعاً كبيراً واختلافاً بين رجال قرى وادي الرمال ناهيك عن القريتين اللتين انشطرتا عن بعضهما وانقسمتا بفعل الرجال.

وإنْ لم نقم بواجبنا تجاه الوادي وباهتمام في سائر الرمال، فستظهر في قادم الأيام قوة، تأخذنا إلى خارج عُمق المكانة التاريخية.

ومن قول جدي الكبير أنقل لكم، الشعور الإيجابي، والالتفاتة الحكيمة بالانتماء إلى رمال الوادي المكين ” أنّ على قرية الوادي توسيع رقعة امتدادها إلى المائين الكبيرين، وتكوين قوة أكبر في يابسة وادي الرمال.

قال الشيخ حامد، زعيم مجموعة الستين الذين اعتزلوا الرجال:

ـ لا علينا من ذلك كله، علينا أنْ ندعم تغيير أفكار الناس وارشادهم وتحذريهم من مغبة الفرقة والشتات والانقسام وسأعرض على رجالي الستين، بأنْ يَثبتوا على ما هم عليه، وعلى كل واحد منهم مسؤولية في قادم أيامنا وسنعتدّ بها على أطراف اليابسة، وسأكون أنا الرشيد عليهم.

قال وليد، بنفس غير راضية:

ـ هذا عمل غير جيّد، وفيه جدل كبير وسَيُحدث تنازعاً مُخيفاً، سيُرعب رجال وادي الرمال.

قال الشيخ حامد:

ـ وادي الرمال وطن كبير لنا، ولا نحتاج إلى أفكار فلسفية كي تُخرجنا من مَغبة الاحداث التاريخية، فمنذ الانشطار الأول والتكوين، لم نجد شيئاً قدّمته لنا الاحداث التاريخية غير مساوئ أخلاقية وشِقاق بين الرجال وتنازع على السُلطة.

وهذه أفكاري أقصّها عليكم وإن اختلفتم، فأنتم المسؤولون عن اختلافكم ولعلكم تَعُون ما أقول.

وأفكاري التي أبُثّها عليكم، هي نتاج رحلة اسْفاري البعيدة وقراءاتي لـ رسالة الكون الأوّل، وإني مُعِد للرسالة جزءً غير كبير، مِن أحداث واقعة الرمال، بل أني وجدتُ كل الرسالات الكونية، عبارة عن رسالات فلسفية جدلية، وحوّلتهما من صُورة جميلة إلى صُورة نمطية، كانت مفتاحاً للشقاق وما صيّرته إليه.

ولستُ ـ هنا ـ أتعمّد نقل صُورة الأطوار التي كانت عليها أحوال الحياة ولا نقل الصورة النمطية التي انتهتْ إليها.

فالحياة أطوار تتجدّد وأنماطها تتحدّث بلا توقف.

ومما قرأته في رسالة الكون الأول:

ـ أتُنبؤني، بأنّ كرامات السماء تتواتر للبشرية ولا تُجمع.

وعلى مِنوالها قام جدل في زمنها الغابر، بين أحداث تعدّت على حقّ حياة الناس في وادي الرمال، وبين قول، ظنّها من كرامات السماء وليس بفعل الرجال في الرمال.

وكان الجدَلان قد اتّسعا وتشقّقت رقعتاهما، ولم يُصلح أحد ما انفتقَ ولم يأتِ مُصلح لرتق ذلك الاختلاف ولكنّا نأخذ منهما عِبْرة للأحداث، لا كحياة للفضيلة، ولا لكرامة الانسان ولا لأخلاق بشرية؟.

بل نعدّها ونَعتبرها اسْتلهام لحياة بشرية قامتْ على خيارات أتاحتها حياة الناس ومَعيشتهم؟.

قال رجل ذو عينين عسليتين لتوه لحق بـ وليد وأخيه أزهر مع ثُلّة من رجال:

ـ أأنت أصدق أم الجد الأول.؟ كفاكم ظُلماً.؛ ألا تتعظون.؟ كفانا صراعاً بين عقولنا وقلوبنا.. كُفّوا عن الخسّة والخباثة في الوادي، ألا يكفيكم الفساد في الرمال وسرقة أموال اليتيمين.؟ ألا يكفيكم إفْساد علاقاتنا التاريخية مع بقية قرى وادي الرمال؟.

قال رجل يُدعى بـ العفّاش مُقاطعاً:

ـ يا شيخ حامد، دع فلسفتك وجاوبني.. أتذكُر كيف كان حال من قبلنا بلا قيَم.؟ وهل تفكّرت في النشأة الاولى وأمْشاجها، وأخلاط ماؤها المُهين…؟ أم أنت ومن معك تكوّن منها وجهاً جميلاً ولساناً سليطاً وعيونا لا خلاق لها.؛ وقلباً مشحوناً بالكراهية والسوء.

لم يُجبه الشيخ حامد ولم يُعقب.. وظلّ صامتاً وقد أطبق بُوزه في غضب!!!.

فقال العفّاش بانتشاء:

ـ اعلم بأنك لم تُجبني ولم تُعَقّب على قولي وستنكر الحقيقة؟.

ولكني سأطرح عليك سؤالاً بطريقة مُختلفة:

ـ لماذا غدر الناقِصون بسيّدهم فقتلوه بوحشية ودناءة وخِسّة؟

قال رجل قصير القامة مُعقباً:

ـ يا أيها العفّاش، اهْدأ قليلاً واتّعظ، وقل من هم أعداء الوادي؟.

قال الرجل ذو العينين العسليتين:

ـ هو ومن على شاكلته.

ونظر بغضب إلى العفاش وإلى الشيخ حامد وقال:

ـ كل فِعْل مُشين به لباس من الباطل.

وأما اسئلتكم حول قرية الوادي فهي جزء من حقيقة الجد الكبير ما دام باقياً.

وأما ما يدور من اختلاف فهي من مُحسّنات تغيير أحوال الناس ومعايش أطوار البشرية.

وكما يبدو، أنّ من أصعب الحيوات الكونية، التطوّر والتكوين، ولكلّ واحدة تجربة في حدودها وما عبّرت عنها علاقات البشر.

أمّا الذين أشرت إليهم من الرجال، والذين كانوا يَعملون في البحر، فما حدث في البحر هو ما حدث مثله على الرمال.

ولكن ما يَهم الناس، هو ذلك الاتفاق بين ملك البحر وبقيّة بحارة الساحل، أليس كذلك؟.

دعني أحدثك قليلاً بطريقة الحكاية؟.

ـ خرق الملك الاتفاق وخان عهد الرجال، وكان ذلك بداية الخرق هو انعدام الثقة وغياب المَوثق.. ومن نقض عهداً لا مَوثق له.! فإلغاء اتفاقية الساحل تُعَد بمثابة اعتداء على العَهد.! وخرق العهود تُصار إلى انعدام الثقة وغياب الكلمة الصادقة والوفاء بها يقود إلى الامانة وهي من أعظم منازل صِدق الوعد.

ومن كتاب التكوين من سيرة الجد الأكبر، المُحققة في صحيفة سيدي الجد الكبير، نقرأ ” من اعتدى على عهد غيره، ولم يُبلغهم، كان خائناً”.

ونفهم من ذلك، أنّ الحياة مَبادي وقِيَم والتزام.. وقد ذكَر سيدي الجد الكبير عن الرجل الأول” الأكبر” من خلال نصوص ثابتة:

ـ الحقّ قد يُؤخذ في الرمال ولكن العَدل أبْقى في السّماء.

قال أزهر وهو يلتفت إلى ذي العينين العسليتين:

ـ نعم، صدقت، كلّ أخبار الأوّلين حكايات، أكثرها تتحوّل إلى أساطير مكذوبة لا حقيقة فيها إلاّ قليلا مِمّا تقرؤون في نصوص ثابتة.

وأنّ الجدّ الكبير هو الحارس الامين، على مكانة الوادي وهيبة القرية، وكُلّ اختلاف فيه شِقاق فتجنّبوه، فشرارة الاختلاف شَتات وكلّ ثبات بداية، وإياكم أنْ تُنكروا حقيقة ما يُبلغكم به الجد الكبير، فهو العَهد بينكم.

اعتدل “وليد“ في جلسته، وأخذ يَتمنطق ما تحزّم به، واسترسل قائلا:

ـ أيها الناس.. أخذتُ على عاتقي بأنْ أكْمل رسالة الخيّريين من الرجال وأرى أنه من الواجب الإلْتزام بما أبْلَغ عنه جدي الكبير، فالتزموا وكونوا قوة وحياة، تفخر بكم الرمال.

ثم وضع يده على صدره، وأردف قائلاً:

ـ أنا من حيث عرفتموني، ورأس الحِكْمة جدّي لم يزل باقياً بينكم، وإنْ اشْتدّت مِحن الحياة أو اشتدّ ضَيقها، فلا نُكْران للجميل.

يـتـبـع الـحـلـقـة 30 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى