ثقافة وأدب

بكل ما استطاع..

ياسمين عبدالمحسن إبراهيم

المدير التنفيذي لشركة رواق الابتكار
مدربة في مجال اكتشاف وتطوير المهارات
مهتمة بمجال تطوير الأعمال

 

يحاول الإنسان منذ أن يعرف طريق الوعي إلى قلبه، أن يُصلح نفسه آلاف المرات في اليوم الواحد، وكأن روحه ورشةٌ مفتوحة لا تُغلق أبوابها أبدًا يقف أمام مرآته الداخلية مُحاولًا أن يُهدّئ ضوضاء أفكاره، ويُهذّب ردود فعله، ويُمسك بتلابيب أعصابه قبل أن تنفلت في لحظة غضب عابرة، يجاهد في كل رمشة عين، وفي كل شهيق تُحاول الحياة أن تسرق فيه منه توازنه، وفي كل زفير يُحاول أن يُعيد ترتيب نفسه من جديد، إن الأمر أشبه بممارسة صامتة للنجاة، نجاةٍ من نفسه مرة، ومن العالم مرات.

يمشي الإنسان في هذه الدنيا محمّلًا بضعفه وقوته معًا، وكأنه يحمل حقيبتين لا يستطيع الاستغناء عن أيٍّ منهما، إحداهما فيها عيوبه التي يخجل منها، وأخطاؤه التي لا يزال يدفع ثمن بعضها، وانكساراته التي يحاول أن يخفيها تحت جلده، أما الأخرى؛ ففيها أحلامه الصغيرة، وكرامته التي يدافع عنها في أصعب اللحظات، وشغفه الذي يتمسّك به رغم العواصف، وكلما حاول أن يُصلح حقيبة الظلال، وجد نفسه يعود إلى حقيبة النور لكي يستمد منها ما يعينه على الاستمرار.

إن الإنسان يقضي حياته كاملة محاولًا ألا تجعله الدنيا نسخة مشوّهة عن الأصل، ألا يسقط في تلك الهوة التي تغيّرت فيها ملامح الكثيرين، وأصبحوا أشباحًا لأنفسهم، أو انعكاسًا باهتًا لما كانوا عليه يومًا كل يوم يستيقظ وفي قلبه رجاء خفي؛ ألّا يخسر نفسه، أن يبقى كما هو، أو على الأقل ألا يبتعد كثيرًا عن تلك الصورة التي يحبها عن ذاته، إن العالم قاسٍ بما يكفي ليحوّل أجمل الوجوه إلى عابسين، وأرقّ القلوب إلى أشواك، وأصدق الأرواح إلى جدران مغلقة، ولذا فإن التمسّك بالذات الحقيقية يصبح معركةً يومية لا تهدأ.

يحاول الإنسان أن يُحافظ على بقاياه كما لو كانت كنزًا مهددًا بالضياع يضمّها إلى صدره ليلًا عندما تهدأ الأصوات من حوله، ويُذكّر نفسه بأنه ما زال قادرًا على الحب رغم الخيبات، وما زال قادرًا على العطاء رغم الاستنزاف، وما زال قادرًا على الوقوف رغم التعب، يرمّم صدوعه بصمت، يربط جروحه بيده، ويستكمل طريقه، ليس لأنه قوي طوال الوقت، بل لأنه يعرف أنه لو توقّف سيفقد ما تبقّى منه.

إن أصعب ما يواجهه الإنسان ليس العالم، بل ذلك الصراع الصامت داخله؛ صراعٌ بين من يريد أن يكون، ومن تضطره الظروف لأن يُصبح، بين صوته الأول الذي يهمس له بالسلام، والصوت الآخر الذي تدفعه الحياة قسرًا ليكون أكثر قسوة مما يحب، بين وجهه الحقيقي الذي يتمنى أن يراه الجميع، والأقنعة التي يُضطر لارتدائها لكي يحمي نفسه من الأذى، كل ذلك يجعل رحلة الحفاظ على الذات رحلة طويلة، لكنها رغم ذلك أكثر الرحلات صدقًا وإخلاصًا.

وفي النهاية، يكتشف الإنسان أن كل هذه المحاولات، مهما بدت صغيرة أو غير مرئية، هي التي تحفظ له ملامحه، وتُبقي قلبه حيًا، أن كل مرة ضبط فيها غضبه، أو سامح رغم ألمه، أو ابتسم رغم جرحه، كانت خطوة نحو ذاته لا خطوة بعيدًا عنها، وأن كل لحظة اختار فيها أن يبقى إنسانًا، كانت انتصارًا، حتى لو لم يصفق له أحد، لأن أجمل الانتصارات تلك التي تحدث في الداخل، في ذلك المكان الذي لا يراه أحد، حيث يقف الإنسان وحده أمام نفسه ويقول بثقة: ما زلت أنا… بكل ما استطعت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى