
السينما الوثائقية في سلطنة عُمان: بين الجغرافيا والهوية والتكنولوجيا
أصـــداء /العُمانية
في زمنٍ تتسارع فيه الصور وتتنافس الحكايات على لفت الانتباه، تبرز السينما الوثائقية العُمانية كنافذة هادئة تُطل على عمق المكان وثراء الإنسان. من جبال الحجر الشاهقة إلى سواحل بحر العرب، ومن الأسواق الشعبية إلى الحكايات المنسية في القرى، تتحول الجغرافيا العُمانية إلى لغة بصرية تنبض بالحياة.تعد الجغرافيا العُمانية بتنوعها الفريد، من السواحل الممتدة إلى الجبال الشاهقة والصحاري الواسعة، مادة خامًا غنية للسينما الوثائقية، حيث لا يقتصر دورها على كونها خلفية بصرية فحسب، بل تتحول إلى لغة سردية تُسهم في بناء الحكاية وتشكيل الإيقاع البصري للفيلم. وفي هذا السياق قال الدكتور محمد بن سليمان الكندي، مخرج أفلام وثائقية وعضو الجمعية العُمانية للسينما: “إن التنوع المناخي الذي تمتلكه سلطنة عُمان يميزها عالميًّا، ويكسبها تنوعًا بيئيًّا؛ البحر والشجر والبشر والحجر ومدارات الشمس والقمر، كلها عناصر تنعكس على تنوعها الجغرافي المتفرد لتصبح مادة سردية بصرية ثرية للأفلام الوثائقية من خلال التقاء الصحراء ذات الرمال الناعمة المتناغمة في الألوانبالبحر الذي بدوره يتناغم من الجهة الأخرى مع الجبل الذي تتشكل عليه التضاريس الطبيعية من كهوف وسهول ووديان والتضاريس الحضارية التي صاغها المعمار العُماني.

وأضاف الكندي: “بلا شك، تعد هذه الموجودات إحدى أهم أدوات صناعة الفيلم الوثائقي، فهي عناصر بناء الحكايات التي تمنح العمل أصالة وعمقًا.”ووضح أن الموقع الاستراتيجي لسلطنة عُمان من الجهة البحرية يعد مكونا ثقافيًّا بحد ذاته، حيث يمتد الساحل العُماني لأكثر من 3165 كيلومترًا، وهو ما يوجد ثراء في تبادل الثقافات الشرقية والشمالية والجنوبية. وبين أن هذه السواحل شكلت عبر التاريخ ملاذًا آمنًا للسفن المرتحلة من الشرق إلى الشمال ومن الشمال إلى الغرب مخترقة الجنوب، وهذا هو أحد أهمالعوامل التي أسهمت في نقل الثقافات العربية والأجنبية المحملة من الهجرات الراسية في سواحل سلطنة عُمان.وأكد الكندي على أن إدماج الصورة البحرية مع الصورة الصحراوية يشكل رمزًامتفردًا لسلطنة عُمان، خاصة إذا تكاملت الصحراء مع واحات النخيل الباسقات لتشكل جماليات بصرية متفردة للسينما الوثائقية العُمانية، وينسج من خلالها الموروث المرتبط بالبحر والسفر، لتحاك قصص وحكايات جديدة تعكس الهوية العُمانية.وبين أن الصحراء ذاتها تشكل قصصًا متفردة لحياة الإنسان في سلطنة عُمان تضفي على الأفلام الوثائقية العُمانية ترفًا في الجمال البصري والسرد القصصي، تتجلى في مشاهد البر والبحر والسهل والجبال، وأن الحضارة العمانية التي صاغها الأجداد أصبحت واقعًا وصورة بصرية أخاذة في حاضرنا ليصاغ منها تاريخ آخر تحكيه الأجيال في المستقبل، لاسيما أن السينمائي العُماني يتمتع بثقافة عالية تؤهله لصياغة أعمال ذات مشتركات ثقافية وأدبية وتكنولوجية متطورة، ما يمكنه من عرض منتجاته عبر المنصات العالمية والمحلية وفق لغة سينمائية حديثة.وفي سياق الحديث عن المدى الذي تعكس فيه الأفلام الوثائقية العُمانية الموروث الثقافي والحضاري، من العادات اليومية إلى الحرف والفنون، وعن مدى استطاعة المخرج الوثائقي الموازنة بين الأصالة المحلية والطرح الإنساني العالمي في السرد، قال الدكتور رشيد بن عبدالله اليافعيعضو مجلس إدارة الجمعية العُمانية للسينما ومخرج أفلام وثائقية:إن الأفلام الوثائقية العُمانية تتميز بارتباطها الوثيق بالبيئة الطبيعية والإنسان، فهي ليست مجرد إنتاج بصري، بل جزء من مشروع ثقافي أوسع. فهي تستند إلى قضايا واقعية وبيئة خصبة لصنّاع الأفلام، حيث تحضر الهوية بشكل كبير سواء في عرض الممارسات التقليدية أو في توثيق الموروث الثقافي، وذلك استجابة لضرورة الحفاظ على الإرث وإظهاره بالصورة الجمالية المتكاملة التي تبرز عمق التجربة العُمانية الممتدة عبر قرون، وتعيد تشكيل الانتماء والذاكرة وتسويقها للعالم بلغة بصرية تجذب المشاهد ليبحث بنفسه عن الفسيفساء المكوّنة لهذا التنوع الفريد من الإنسان والمكان.

وأكد أن الأفلام الوثائقية العُمانية تُظهر درجة كبيرة من الارتباط بالموروث الثقافي والحضاري، إذ تركز على الإنسان في تفاعله مع المكان وعلى تفاصيل الحياة اليومية التي تحمل في جوهرها دلالات عميقة عن الهوية. وحين يقدم الفيلم الوثائقي الإنسان بوصفه شخصية تتعامل مع تحديات الحياة وتحمل مشاعر وآمالًا وقصصًا إنسانية، يصبح قابلًا للفهم عبر مختلف الثقافات من خلال السرد البصري واستخدام لغة سينمائية تمنح الفيلم خصوصيته المحلية وتجعله جاذبًا للمشاهد الخارجي. وبهذا يصبح الفيلم قادرًا على تقديم ذاته بوصفه خطابًا إنسانيًّا دون أن يفقد هويته التي تمثل روحه.

وأوضح أن المشهد العُماني يمتلك ثراءً بصريًّا يمكن للمخرج الوثائقي تحويل العديد من عناصره إلى رموز جمالية تُسهم في تعريف العالم بسلطنة عُمان ثقافيًّا وسياحيًّا، حيث تكمن هذه الرموز في تفاصيل الذاكرة البصرية التي تثير فضول المتلقي العالمي. فهذا الإرث ليس مجرد موضوع للتصوير، بل هو هوية حضارية وبصرية متعددة الأبعاد تدمج بين الأصالة وتطرح الإنساني باستخدام جماليات المكان والعناصر الثقافية التي يستطيع الفيلم الوثائقي أن يحولها إلى جسور ثقافية تعرّف العالم بسلطنة عُمان، وتُرسخ صورة حضارية غنية تستند إلى تاريخ عريق.وبين أن الفيلم الوثائقي العُماني برز من خلال تلفزيون سلطنة عُمان منذ أوائل السبعينات، حيث كان له أثر كبير في المشهد الوثائقي عبر أفلام مختلفة الموضوعات شكّلت الرافعة الأكثر حضورًا في هذا المجال، وشاركت العالم حضارة عُمان وإرثها الثقافي من خلال المهرجانات الدولية. كما أضاف أن الجمعية العُمانية للسينما شكّلت تحولًا فريدًا في المشهد الوثائقي، وجعلت منها الوجهة الأولى لرعاية المواهب السينمائية وتنمية شغف الشباب في مجال صناعة الأفلام، وذلك عبر تبني الكثير من صنّاع الأفلام وانتشار أعمالهم داخليًّا من خلال مهرجان مسقط السينمائي الدولي ومهرجانات المحافظات، وخارجيًّا عبر المشاركة في مهرجانات عربية ودولية نقلت الهوية والثقافة والإرث الحضاري للعالم بلغة بصرية رصينة ومبدعة.وأشار أيضًا إلى مشروع «اصنع فيلمك في عُمان» الذي تسعى من خلاله الجمعية العُمانية للسينما إلى تسويق الموروث الحضاري والثقافي، وكذلك مواقع سلطنة عُمان المختلفة بوصفها أستوديوهات مفتوحة للتصوير للشركات العالمية، لكي تصبح صناعة السينما أحد مصادر الدخل للفرد وللاقتصاد الوطني من خلال استثمار التنوع الجغرافي والبيئي لسلطنة عُمان.وأكد على أن الأفلام الوثائقية العُمانية تبقى الجسر الذي يمكن أن ينقل هذا التفرد والتميز لسلطنة عُمان، من تنوع في اللغات واللباس والمأكولات والعمارة والعادات والتقاليد والفنون، إلى العالم بلغة بصرية عميقة تعكس كل هذا الثراء والجمال، وتسهم في التسويق لسلطنة عُمان ثقافيًّا وسياحيًّا.أما فيما يتعلق بماهية الفن الوثائقي، وإلى أي مدى يمكن اعتبار الفيلم الوثائقي فنًّا قائمًا بذاته، لا مجرد وسيلة للتوثيق أو الإخبار وكيفلهذا الفن أن يوازن بين نقل الواقع كما هو وتأويله بلغة جمالية وفكرية تعبر عن رؤية المبدع للعالم، فقد أجاب المخرج أحمد بن عامر الحضري قائلًا :”منذ بداية السينما شكلت الأفلام الوثائقية جزءًا رئيسًا من فن الصورة، دون الدخول في مصطلحات نظرية معقدة لماهية الفيلم الوثائقي، الذي يمكن وصفه ببساطة بأنه شريط سينمائي يعتمد على فكرة يقوم المخرج بتطويرها ومعالجتها من خلال تراتب اللقطات والتأطير والمونتاج، وما إلى ذلك. وأشار إلى أن الفيلم يستشهد بشخصيات واقعية لتعزيز الفكرة وشرحها وإثباتها أو نفيها، وقد شكلت الأفلام التي تسمى “تمثيلية” الأغلبية الساحقة من الإنتاج العالمي، بما فيها الأفلام الوثائقية، والتي تسعى إلى تسويق افتراضات مثالية متخذة من العالم الخيالي للفيلم واقعًا”.

وأوضح أن الفيلم الوثائقي جزء من صناعة الأفلام، ومع أنه يشكل حالة مختلفة عن الفيلم الروائي الذي يعتمد على الخيال بشكل كبير، إلا أنه صنف قائم بذاته في السينما والتلفزيون، لا يقتصر دوره على التوثيق فقط، بل يستكشف حدود الوجود ويواجه المجهول وما يمكن أن يكون، ويقف على عتبة الكينونة. وأكد أن بعض الأفلام الوثائقية تضع المشكلة أمام المشاهد في رحلة اكتشافية مليئة بالشك والصدمة، حيث تتجلى الحقيقة رويدًا رويدًا في قصة الفيلم أو شهادات الشخصيات، كما ترسم من خلال الشخصيات الواقعية إيماءات تواصل عبر الحدود في عالم متأثر بالصدمات التاريخية والنزوح والشعور بالانتماء، بلغة شعرية تمزج الواقعية السحرية بالأداء الوثائقي.وبين أن الفيلم الوثائقي قد يلتقط التأثير القوي لشخصية ما متحديةقرونًامن الحواجز الاجتماعية والاقتصادية التي يسعى الفيلم لإيضاحها، وبالتالي فإن الإخبار والإشهار ليسا الهدف الرئيس في سيناريو الفيلم الوثائقي، بل هناك أهداف أخرى يسعى المخرج لتحقيقها من خلال المعالجة التي يضعها للقصة أو الفكرة، وفي بناء الفيلم الذي يقوم به قبل الشروع في التنفيذ.وأضاف قائلًا: إن الفن الوثائقي يوازن بصريًّا بالحركة التي تصنعها اللقطات، وبالقصة التي يبنيها السيناريست، بين نقل الواقع كما هو وتأويله بلغة جمالية وفكرية. فالفيلم الوثائقي يستكشف خيارات الحياة التي اتخذها بطل الفيلم، سواء كان شخصية واحدة أو عدة شخصيات من الواقع الإنساني، وقد يعالج القضايا الجيوسياسية والاجتماعية الكبرى مثل الهجرة والدين والمحافظة والأسرة والتسامح، كما يتأمل في التوترات بين التقاليد والحداثة، وبين المنزل والعالم الأوسع.ونوه المخرج إلى أن بعض المخرجين يمزجون في أفلامهم الوثائقية بين الماضي والحاضر، وبين الخيال والتسجيل الواقعي، من خلال إعادة مشاهد بأسلوب المحاكاة للواقع الذي حدثت فيه تلك الأحداث التي يرويها الفيلم، وهو ما يُعرف بإعادة بناء “ما بعدي”، وهي إعادة تمنح المشاهد دائمًا تجانسًا أكبر وتناسقًا أوضح مما كان عليه الواقع نفسه.ودعا إلى النظر إلى الفيلم الوثائقي باعتباره فنًّا قائمًا بذاته، لا مجرد وسيلة إخبارية أو توثيقية، بل خطابًا بصريًّا وفكريًّا قادرًا على أن يفتح آفاقًا جديدة لفهم العالم، ويمنح المتلقي تجربة جمالية وفكرية متكاملة. وأكد على أن جماليات الفيلم قائمة على تنوع اللقطات وتكوين الكادرالذي يرسمه المخرج من لقطة لأخرى وسلاسة الانتقال بين اللقطات والمشاهد، إلى جانب الموسيقى التصويرية المصاحبة والمعلومات التي يقدمها النص من خلال التعليق الصوتي أو شهادات الشخصيات وألا يقتصر الفيلم على توثيق المعلومات فقط دون معالجة وبناء فني للفيلم.أما فهد بن رمضان الميمني محاضر في صناعة الأفلام بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية وعضو مجلس إدارة الجمعية العُمانية للسينما، فقد أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي اليوم يشكّل فرصة ذهبية لفنّ الفيلم الوثائقي، وليس تهديدًا له. ويرى أن هذه التقنيات أصبحت قادرة على رفع مستوى الجماليات البصرية عبر تحسين الصورة، وترميم الأرشيف، وتلوين اللقطات التاريخية بدقة عالية، كما أنها تساعد المخرج في الجانب البحثي من خلال تحليل آلاف السجلات والوثائق خلال لحظات، مما يفتح أمامه زوايا جديدة لم تكن واضحة سابقًا.

ويرى أن المخرج يمكنه أن يستخدم هذه الأدوات دون أن يفقد الوثائقي صدقه الإنساني، بشرط أن تبقى “الروح البشرية” هي مركز العمل. فالذكاء الاصطناعي أداة وليست بديلًا عن المخرج؛ إذ يساعده في تحليل الأرشيف، واستعادة الذاكرة المفقودة، وصناعة تجارب تفاعلية مذهلة، لكنه لا يستطيع أن يشعر، ولا أن يلتقط الهشاشة الإنسانية التي يقوم عليها الفيلم الوثائقي. هذه الحساسية يقدّمها الإنسان فقط.أما عن مستقبل السينما الوثائقية، فبيّن أن مستقبل السينما الوثائقية واعد، لكنه مليء بالتحدّيات؛ فالتقنية تتسارع بشكل مذهل، والذكاء الاصطناعي سيغيّر طريقة الإنتاج، والبحث، وحتى التوزيع.

وأكد أن الجمهور سيصبح أكثر وعيًا، وأكثر رغبة في أعمال صادقة وأصلية تحمل حقيقة الإنسان كما هي.ويعتقد أن المستقبل سيكون لمخرج يعرف كيف يوظّف التقنية دون أن يسمح لها بأن تطغى على الإنسان، بالإضافة إلى أن الوثائقي الحقيقي سيظل دائمًا فيلمًا يرويه إنسان مهما تقدّمت الآلات.














