أصــداء منوعةثقافة ، أدب ، إصدارات

رواية وادي الرمال .. حلقة 10..

حـمـد النـاصـري

 

رواية وادي الرمال .. حلقة 10..

 

قال أحد الرجال عُرف بأنهُ ذو حكمة وبَيان خِطاب ولسان ليّن لوليد:

ـ ما كان يجدر بك أنْ تُلغي قيماً وموروثاً لطالما كانت جزء مهم من حياة الناس ومن الصعوبة بمكان التخلّي عنها .. فالرجال ـ جميعاً ـ تربوا ونشئوا عليها وخبروا تفاصيلها وعاشُوا في خضمّ احداثها … ثم كيف لك أنْ تُشكّكنا في عقائدنا لمجرّد أنّ لديك هاجس بأنّ ما نحن عليه لا دليل ثابت عليه ولا حتى تأكيد جازم .؟ إنْ كنت ـ يا وليد ـ مُستقيم الرأي ونافد البصيرة كما تدّعي فاثْبت لنا بأنّ مفهومك للحياة الجديدة والذي جئتنا به ، هو الأحق بالاتباع والتطبيق وأن تُبصّرنا بفضائل ومنافع فكرتك التي ما كُنّا لنهتدي إليها لولا أنك جئتنا بها.؟ نحن على نقيضك عندما نُميّز أنانية الغايات ودناءة الوسائل ورغم أنك بمزاعمك تلك شوّهت عقائدنا ، وسَفّهت سِيَر الأوّلين من الآباء والأجداد ، وكان الأجدر بك ان تٌعطي قدراً من الاحترام لسِيرة جدك الكبير!.

هنا التزم وليد الصمت وسكت.. غير أنّ عينيه اخذتْ تدور في المكان وكأنها تتفحّص الوادي.

قال رجل قد افْترش سجادة قصيرة يدعونه بـ العجيب وقد جلس في الصف الاخر بجانب كبيرهم :

ـ تابعتُ حديثكم وحواركم ، وقد وجدتُ أنّك ـ يا وليد ـ لم تُقدّم توافقاً يقترب من رضا الجماعة ؟ زد على ذلك ، لم تكُن بدائلك أمثل وأقوم ؟ ثُم لم تأتِنا بدليل قطعِي على صحة ونجاعة أفكارك وكل ما جئتنا به يتقاطع مع الواقع الذي نعيشه .؟ وأنا أعلم ومن سنين خبرتي في الحياة بأنّ الذي لا يُقدّم نفعاً لنفسه وخيراً لأهله فهو بخيل لا منفعة تُرجى منه .. والخير كُل الخير أنْ تأتي بالدليل لنكون معك السّند الاكيد.!

سكت الرجل بُرهة ثم استأنف هجومه على وليد وخلال ذلك تزداد حماسة المُتحلّقين حوله فيرددون بصوت واحد:

ـ نحنُ جميعاً بكلام العجيب راضُون وبرأيه مُلتزمون ؛.

فقال العجيب :

ـ  إنّ ما ورثناهُ عن آبائنا وأجدادنا لا يُمكن إلغائه بهذه السهولة ومن ثم فنحن لسنا بحاجة إلى فلسفتك الواهية .؟ فكلماتك المعسولة قد تترك أثراً لا يُمّحى من ذاكرة ساكني الوادي والرّمال ولكن لكونك حفيد الجد الكبير ذلك الجدّ الشهم اقترح عليك ، أنْ تعود إلى رُشدك وأنْ تُراعي قومك وأنْ تتصرّف بلباقة، فمن لا يُراعي شُعور الآخرين ، فهو وقح قبيح فلا تجعل حديثك في غير مُستوى مكانتك الطيّبة؛.

انبرى رجل من القوم ضخم الجسد ، مُكتنز الرقبة يُلقّب بـ المكتنز ليدلو بدلوه قائلا :

ـ نعم صدق سيّدي شيخ الوادي كما صدق العجيب في كلامه .. فلا يحقّ لك يا وليد ولا لغيرك ممن يحمل فكرك أنْ يُلغي كلّ تلك السنين والقيم التي ورثناها عن أكابِرنا ، فالحياة المُتوارثة بكل ما حوتهُ من أحداث ومواقف في وادي الرّمال لن تزول بتشكِيك فجّ لا دليل عليه ، غير خفايا لا نعلمها ، تُفاجئنا بها فقط ، ومن خلال هذا الحوار المشحون مع رجل يُريد تغيير نظام الحياة بالوادي بأفكار لم نعهدها  وذلك صِبْأ وانحراف ابتدعته أنت ومن معك . ولا احد له تعريفاً غير أنّه لوثة بعقلك لا يُرتجى منها إسعاد الوادي .؛

قال وليد بهدوء وعينه على المُكتنز محدثه وموزعاً نظراته على الرجال وشيخ الوادي :

– أنا لسْت باحث عن شُهرة، ولا هي غايتي، ولا جئتكم من أجلها ، وأنّ رَيبكم وشكّوكم مبعثها تخوّف وقلق يَعتمل في نفوسكم ، وتخشون  أنْ تصفوه او تُسموه على حقيقته .. واعلموا أنّي لا أفتعل الاختلافات معكم بتاتاً .. فأنا كبير بصغيركُم إذا نوى .. وناصح لكبيركُم إنْ قصّر واتّبع هواه وعاند والشقيّ من شقيَ غيره بعناده .؛ وانا لستُ كذلك ، إنّ أشدّ ما أخشاهُ في وادي الرّمال أنْ يعيق الرجال ثورة التغيير!!..

التفت إلى الرجل الضخم المُكتنز:

ـ اعْلم أيّها الرجل المفتون بنفسك ، أنّ القلق والخوف هَمّان بائسان!.

قال الرجل العجيب وكان ذا مقربة من وليد وبينهما صِلة رحم :

ـ انا أعلم منك بفلسفة المكان وأعلم عمّن تتكلّم .. دعْني اُبيّن لك شيئاً عن علم الكلام الذي جئتنا به فهو علم مُؤثر بنتائجه ولكنه أيضا يتأثّر بما حوله وكذلك له قدرة التّأثير الداخلي في النفوس  وما يُحيط بها ، ويُقاس تأثير منطقه الكلامي تأثر سلوك المقابل .؛

ـ لم اقُل ذلك مُطلقاً .. “ردّ وليد مُقاطعاً”.

لم يأبه الرجل بمقاطعة وليد ، واسْتمرّ في تهكّمه  :

ـ إنْ كُنت تعتقد أنّ الرغبات تخلق قاعدة، وأنّ شكل العلاقة تخلق الرّغبات.. فعليك أنْ تُحدد العلاقة المُتّصلة بالقاعدة ، لتضمن أيّهما يخلق زخماً في عزيمتك ويُبدد ما تخلقه لنا من تغيير وإنْ صاحبتهما عزيمة وجدّيّة.!

رَنا وليد بنظره إليه وقد اسْكن طرفه ، ورفع بصره إلى السّماء المُمتدة في غسق رمادي، وبدتْ النجوم في غسقها نائية باهتة، كأنّها تبتعد إلى بُعد أعلى، ثُم أعلى.. وتبتعد عن الرمال شيئاً فشيئاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى