
حارة الرمل (4).. مدرسة محمود بن إبراهيم الرئيسي أول مدرسة حديثة في قلب الحارة… 1958 – 1960م
أ. عصام بن محمود الرئيسي
مؤلف سلسلة كتب “مختارات من البروتوكول”
استعرضنا عزيزي القارئ في الفترة الماضية مواضيع مختلفة ضمن سلسلة مقالاتنا عن ذكرياتنا في حارة الرمل التراثية القديمة، وقد تنوعت مواضيعها، وسوف نتحدث في هذا المقال عن أول مدرسة حديثة في حارة الرمل وفي زمنٍ كانت فيه مصادر المعرفة شحيحة، ووسائل التعليم محدودة، بزغ في أفق ولاية عبري نورٌ خافت لكنه لامع. كان ذلك في عام 1958م، حين أسّس الأستاذ الوالد والمربي محمود بن إبراهيم الرئيسي -رحمه الله – أول مدرسة حديثة في ولاية عبري، في حارة الرمل وعلى نفقته الخاصة وجعلها مجانية، وبمباركة من قبل سعادة السيد سعود بن حارب بن حمد البوسعيدي – رحمه الله – والي عبري آنذاك، وقد كان الأستاذ الوالد محمود مقربا لسعادة السيد وأول من انضم إلى المدرسة هم أبناء سعادة السيد وأحفاده الكرام، لإيمانه وإعجابه الشديد بفكرة ذلك المشروع التربوي، ثم تلاهم بعد ذلك بعض أبناء مشايخ الولاية وبقية المواطنين، وسميت المدرسة باسم محمود كونه المؤسس لها، لتكون بذرة أولى في حقل التعليم الحديث بالولاية، ولتنقل بعض من أفراد المجتمع من فضاءات التعليم التقليدي إلى أفقٍ أرحب من التنظيم والمعرفة، والجدير بالذكر أن المدرسة تم توثيقها لدى هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية.
لقد كان الوالد محمود بن إبراهيم – رحمه الله – من أولئك الرجال الذين وُلدوا وفي قلوبهم حبٌّ راسخ للوطن، فقد أفنى عمره في خدمة عُمان وسلطانه ومجتمعه بإخلاص نادر وتفانٍ صادق. ولم تكن المدرسة التي أسسها في حارة الرمل والتي هي عنوان مقالنا هذا سوى انعكاس بسيط لفيض عطائه، وجزء يسير من سيرةٍ عابقة بالبذل والعطاء للوطن، رسم خلالها ملامح القدوة، وترك أثرًا خالدًا في ذاكرة المكان والزمان والناس بدون ضجيج.
مدرسة في قلب الحارة… بروح الأبوة وخبرة المعلم
لم تكن المدرسة آنذاك بناءً فخمًا ولا مقرًا رسميًا، بل كانت تتكوّن من غرفة بسيطة بأرضيتها الترابية في قلب الحارة، وفرشت عليها الحصيرة، لكن ما منحها قيمتها ليس البناء، بل الإنسان الذي أدارها بعقله وقلبه معًا. حيث كان المؤسس، الوالد محمود، رجلًا سابقًا لعصره في تفكيره وسلوكه التربوي؛ ومثالا في التواضع والكياسة فقد دمج في مدرسته ما بين التعليم الحديث والأسلوب الأبوي في التعامل مع الطلاب. لم يكن مُدرسًا فحسب، بل كان أبًا وموجهًا ومرشدًا، يُعد القهوة بيديه للتلاميذ، وكان يحرص على اصطحاب طلابه في رحلات تعليمية هادفة، في حصص لا منهجية ينقلهم بسيارته الخاصة – اللاندروفر – في تنقّلٍ يجمع بين العلم والمتعة والأبوة، يزرع في نفوسهم حب الاستكشاف، ويغرس فيهم روح التعلم وحب الطبيعة والمعرفة والانتماء للوطن بعيدا عن جدران الصف. حيث كسب تلك الخبرة كمعلم من عمله السابق في المدرسة الإرسالية الأمريكية في مطرح وذلك قبل التحاقه بقوة مسقط آنذاك، وعمله أيضا كمدرس للجنود في مركز التدريب بغلا.
ومن اللفتات الرائعة في الأسلوب التربوي الذي اتبعه نظام التدريس، بأنه يوجه ويرشد طلابه إلى النظام والانضباط، وعلى حب النظافة، والاهتمام بالبيئة من خلال ممارسات يومية بسيطة لكنها عميقة المعنى؛ فقد كان يطلب من الطلبة تنظيف غرفة الصف كل صباح وإبقائها نظيفة دائما، ليس فقط كواجب جماعي، بل كقيمة تربوية تُغرس في النفوس، وتُعلّمهم أن البيئة النظيفة مسؤولية الجميع، وأن احترام المكان جزءٌ من احترام الذات.
مناهج بسيطة.. لكنها راسخة
رغم تواضع الإمكانيات في ذلك الوقت، إلا أن الوالد محمود عمد إلى تنظيم العملية التعليمية بمنهجية واضحة. فقد درّس اللغة العربية مستندًا إلى القرآن الكريم وكتب القراءة المبسطة كمنهج القراءة الرشيدة، وتتميز كتب القراءة الرشيدة بالعديد من المميزات التي تجعلها مفيدة وفعالة في تعليم القراءة، خاصة للمبتدئين. ومن أبرز هذه المميزات:
التدرج في عرض المواد التعليمية، واستخدام لغة سهلة ومناسبة للمتعلم، وتنوع الموضوعات التي تثري معلوماته، وتقديمها بأسلوب مشوق وجذاب، مع التركيز على القيم والأخلاق الحميدة.
وأدخل الأستاذ محمود مفاهيم أساسية في الرياضيات والصحة والسلوكيات الحياتية.
والملفت للنظر أيضا بان مادة اللغة الإنجليزية كان يدرسها بالأسلوب الشفهي في تعليم كلماتها، ويسمى هذا النوع من الأسلوب “التعليم الصوتي أو الوعي الفونولوجي” ويقوم هذا الأسلوب على تعليم أصوات الحروف وليس فقط أسماءها وهو أسلوب يستخدم للمبتدئين للمتعلمين للغة الإنجليزية ويُمكّن الطالب من النطق والاستيعاب الأولي بطريقة صحيحة.
وكانت السبورة الخشبية والطباشير وكذلك الممحاة أو ماسحة السبورة أحد أبرز أدوات التعليم التي تمت الاستعانة بها وكان طلابها يرون هذا الأسلوب لأول مرة مما مثّل نقلة نوعية من أسلوب الكتاتيب الشفهي، إلى بيئة تعلمٍ تفاعلية تعتمد على الكتابة والملاحظة، وتسمح للطالب بالتفكير والتفاعل.
تربية قبل التعليم
تميزت المدرسة بتوجهها الأخلاقي التربوي قبل أن تكون تعليمية بحتة. كان الهدف الأسمى للأستاذ محمود هو تهذيب النفوس وتربية السلوك، لا مجرد نقل المعلومات. ومن هنا، فقد جمع بين الصرامة المحببة والرحمة في التعامل، فغرس في طلابه قيم الاحترام والنظافة والالتزام والحياء. لقد بنى جيلاً يحمل الأدب قبل العلم، والخلق قبل الشهادة.
أثر محدود… لكنه عميق
على الرغم بأن تلك المدرسة لم تستمر طويلا حيث إنها لم تتعدى السنتين وذلك لذهاب مؤسسها إلى العاصمة مسقط لأداء مهام عمله هناك، حيث كان يعمل في الجيش في ذلك الوقت وقد حال ذلك من الاستمرار في أداء مهامه للمدرسة. غير أن أثر المدرسة لم يكن مرتبطًا بعدد السنوات، بل بالجودة والعمق. فقد تخرّج منها شباب استفادوا منها وانهلوا جرعة معرفية ساعدت بعضهم في تكملة دراستهم في المدارس الحكومية فيما بعد بكل يسر، واستمروا في نقل تلك القيم التي زرعها فيهم معلمهم الأول.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المدرسة لم يستفد منها غير عدد محدود من الطلبة، لأسباب انشغال العديد من الشباب في أعمالهم لطلب لقمة العيش وبعضهم من يعمل خارج الولاية ومنهم من رآها غريبة بالنسبة إليه في مجال التعليم، تلك الأسباب وغيرها حالت دون انضمام العديد منهم إلى المدرسة، ولكن ذلك لا يمنع من أن هذه المدرسة كانت السباقة إلى فتح آفاق جديدة للتعليم في ولاية عبري، ويكفي أن بعض طلاب هذه المدرسة أصبحوا فيما بعد وبعد أن أكملوا دراستهم في أماكن أخرى يتمتعون بمراكز قيادية في السلطنة.
وبعد سبع سنوات من توقف مدرسة محمود عن نشاطها تم إنشاء مدرسة الإصلاح وبجهود أهلية من أبناء الولاية وكان ذلك في عام 1967 في حارة الرمل التراثية وبقرب المدرسة التي أنشاها الأستاذ الوالد محمود وكان له الدور في توفير بعض الكتب المدرسية لطلاب مدرسة الإصلاح من قبل وزارة الدفاع بحكم عمله في تلك الجهة آنذاك وخبرته السابقة كمعلم في إنشاء مدرسة محمود إبراهيم في نفس الولاية، واستمر عمل مدرسة الإصلاح لمدة أربع سنوات تزامنا مع افتتاح أول مدرسة حكومية مع فجر النهضة المباركة عام 1971 في الولاية.
مدرسة لم تُغلق… بل خلّدها التاريخ: لم تكن المدرسة مجرد غرفة للتعليم، بل كانت نقطة تحول في العقل التربوي المحلي. لقد نقل افرادا من المجتمع من الاعتماد على التلقين العشوائي إلى المعرفة المنظمة، وأسهمت في نشر الوعي التعليمي في وقت لم يكن فيه التعليم متاحًا للجميع.
إن روح تلك المدرسة، ما تزال حاضرة في ذاكرة العديد من افراد المجتمع في الولاية، وتُستحضر كلما ذُكر التعليم الأولي في عبري. وهي تمثل اليوم رمزًا للريادة المحلية، ومصدر فخرٍ لأجيالٍ تربّت على يدي مؤسسٍ لم ينتظر الأضواء، لكنه أضاء طريقًا طويلًا بدأ من غرفة صغيرة، وانتهى إلى تأثير وطني يتجدد مع كل طالبٍ حمل الرسالة من بعده. ومن الأسماء التي يمكن ان نذكرها التي كانت ضمن طلاب المدرسة وهي ليست كاملة لعدم التوثيق.
“رحم الله من رحل منهم، وأطال في اعمار من بقى على طاعته”
· السيد بدر بن سعود بن حارب البوسعيدي.
· السيد حارب بن حمد بن سعود البوسعيدي.
· السيد سيف بن حمد بن سعود بن حارب البوسعيدي.
· السيد عبد العزيز بن سعود بن حارب البوسعيدي.
· الشيخ حمدان بن راشد بن سلطان اليعقوبي.
· الشيخ حميد بن راشد بن سلطان اليعقوبي.
· الشيخ عبد العزيز بن راشد بن سلطان اليعقوبي.
· الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله اليعقوبي.
· الشيخ ناصر بن محمد بن عبد الله اليعقوبي.
· الفاضل خلفان بن سويلم الريامي.
· الفاضل سعيد بن خلفان بن مفتاح اليعقوبي.
· الفاضل سيف بن كاسب الشكيلي.
· الفاضل عوض بن خلفان بن مفتاح اليعقوبي.
· الفاضل فريش بن عبيد بن فريش اليعقوبي.
خاتمــة
حين نُعيد قراءة البدايات، ندرك أن عظمة الإنجاز لا تُقاس بحجمه، بل بأثره. ومدرسة محمود بن إبراهيم الرئيسي في حارة الرمل كانت بذرة صغيرة، لكنها أنبتت شجرة باسقة من القيم والمعرفة والانتماء. واليوم، ونحن نستذكر هذه المحطة العريقة، إنما نُحيي إرثًا عمانيًّا أصيلًا، ونقدّر رجالًا حملوا على عاتقهم مسؤولية التغيير حين لم يكن ذلك سهلًا.
توفي الوالد والمربي الأستاذ محمود بن إبراهيم يوم الاحد 27 يناير 2020م عن عمر يناهز التسعين عاما ووري جثمانه الثرى في ولاية عبري .. وذلك بعد رحلة كفاح لخدمة الوطن، وسلطانه، تقلد خلالها العديد من المناصب العسكرية والأمنية والإدارية في الدولة، ولم يطلب المجد، ولم يسع للظهور، لكنه صنع الفارق في الخفاء، ثم رحل وترك في القلوب دعاء، وفي السجلات وفاء. “رحم الله الفقيد، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته”
وعلى الخير نلتقي، وبالوفاء نرتقي.
لقد صغت ابو عبدالله هذه السيرة النقية بقلمٍ مغموسٍ بالوفاء
تنساب كلماته برقة وصدق فتُلامس القلب قبل العقل .. أسلوبك يحمل دفء الذكريات فجعل من الحروف مرآةً ناطقة تعكس عظمة الشخصية وصدق الانتماء
رحمك الله استاذنا و أبانا محمود بن ابراهيم الرئيسي
فقد كنت رجلًا سبق زمانه وأيقونة للعلم والعمل في زمنٍ كانت فيه المعرفة نادرة والفرص محدودة.
كنت أول من حمل شعلة التعليم في عبري .
فكنت الأب والمعلّم، والمُلهم لجيلٍ كامل.
مدرستك كانت نواةً للتنوير وحلمًا تحقق على يديك في زمنٍ كان الظلام فيه كثيفًا.
قدّمت لوطنك الكثير بصمت وتفانٍ، لم تنتظر منصبًا ولا شكرًا بل كنت تؤمن أن خدمة الناس والوطن هي أسمى رسالة يؤديها الإنسان في حياته.
سيرتك العطرة ستظل منارةً لنا ولمن بعدنا ولجميع الأجيال ، ومبادئك ستبقى حية في قلوب كل من تعلّم على يدك أو استضاء بفكرك. كنت رجلًا بأمة، ورمزًا حقيقيًا للعطاء والإخلاص.
بارك الله فيك اختي العزيزة ام شهد وأشكرك على مرورك وتعقيبك الرائع المؤثر
رحم الله الأستاذ الوالد محمود بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.
ابو عبدالله،،، ما شاء الله المقال ممتع ، والسرد ممتاز ، يُرغب القاريء لمواصلة القراءة.
شكرا لك على إشراكنا للاطلاع على الموضوع.
تمنياتي لك بدوام التقدم والرقي.
اللهم آمين اخي العزيز ابو قيس شاكر لك اطراءك لمحتوى المقال وهذا دليل على تمتعك بذوق راقي ونظرة عميقة في تعمقك لمحتوى المقال .. مع الشكر الجزيل على تفاعلك المميز