بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

اتفاق غزة : بين هدنة الحرب وسراب السلام

تحليل سياسي إنساني للدكتور/ عبدالناصر سُلُّم حامد بعد متابعته الميدانية لملف غزة

باحث في قضايا الأمن الإقليمي

 

تقول لي إحدى العاملات في مستشفى الشفاء : «لم يعد لدينا سوى الدعاء».

لم تكن الحرب الأخيرة على غزة فصلًا عابرًا في صراعٍ طويل، بل علامة على انهيار النظام الإنساني والسياسي في المنطقة. فبعد عامين من القتال الذي حوّل القطاع إلى ركام، أُعلن في 8–10 أكتوبر/تشرين الأول 2025 اتفاقٌ لوقف إطلاق النار وإطلاق الأسرى على مراحل، بوساطة قطر ومصر والولايات المتحدة ومشاركةٍ تركيةٍ محدودة، في محاولة لوقف الكارثة التي تجاوزت حدود المعقول. ورحّبت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بالاتفاق، داعين إلى تنفيذه الكامل.

جاءت الهدنة في عالمٍ منشغلٍ بالحروب الممتدة من أوكرانيا إلى البحر الأحمر، وفي وقتٍ تخضع فيه واشنطن لحسابات انتخابية تجعل إدارة الأزمات أولى من حلّها. لذلك بدا الاتفاق أقرب إلى ترتيبٍ اضطراريٍّ لالتقاط الأنفاس منه إلى مشروعٍ استراتيجيٍّ للسلام. فكل طرفٍ وصل إلى المفاوضات مثقلاً بخسائره : إسرائيل التي تُشير التقديرات إلى نحو 1,200 قتيل أو يزيدون في صدمة السابع من أكتوبر وما تلاها مباشرة، والمقاومة التي واجهت حرب استنزافٍ مدمّرة، وجوعًا جماعيًا طال أكثر من مليوني إنسان. أما الوسطاء، فقد سعوا إلى كسر دوامة النار دون أن يمتلكوا أدوات فرضٍ أو ضمانٍ حقيقي.

من خلال اتصالاتي الميدانية ومراسلاتي مع زملاء في الميدان، تتبلور صورةٌ لا يلتقطها النصّ الرسمي دائمًا – تفاصيلٌ يومية عن نقص الدواء والوقود، عن قوائم انتظار أمام المستشفيات، وعن صبرٍ ينهار تدريجيًا.

ورغم أنّ الاتفاق تضمّن وقفًا شاملًا لإطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات، وإطلاق الأسرى، فإنه لم يقدّم إجابةً عن الأسئلة الجوهرية : من سيحكم غزة، وتحت أي سلطةٍ سياسية ؟ وكيف ستُدار إعادة الإعمار ؟ ومتى ستُحاسب الأطراف عن الجرائم ؟ فداخل إسرائيل يتنازع التيار اليميني المتشدد والمؤسسة الأمنية حول جدوى الهدنة، بينما يستمر الانقسام الفلسطيني بين غزة ورام الله في تعطيل أي رؤية وطنية موحدة. وهكذا وُلد الاتفاق بلا أفقٍ سياسيٍ واضح، مجرد هدنة مؤقتة تُديرها الإرهاقات لا النوايا.

في الميدان القانوني، يكشف الواقع هشاشة المنظومة الدولية ذاتها. فقد وثّقت تقارير أممية ومنظمات حقوقية استهداف المستشفيات والمدارس والملاجئ وقوافل الإغاثة وحرمان المدنيين من الماء والدواء، في انتهاكٍ واضح لمبدأي التمييز والتناسب المنصوص عليهما في اتفاقيات جنيف. ومع ذلك، خلت الهدنة من أي آليةٍ للتحقيق أو المساءلة، لتبقى العدالة مؤجلة إلى إشعارٍ غير معلوم. فالعدالة المؤجلة تقتل كما تقتل الحرب، وحين يُترك المجرم بلا حساب، يتحوّل القانون إلى ديكورٍ أخلاقيٍّ بلا سلطة. ومادام المجتمع الدولي يساوي بين الضحية والجلاد باسم “الحياد”، فإن أي اتفاقٍ سيظل مهددًا بالانهيار عند أول اختبارٍ ميداني.

أما الوضع الإنساني، فيظل الصورة الأصدق لحقيقة الاتفاق. فبحسب تقديرات أممية حديثة، تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 67 ألفًا، وأصيب أكثر من 167 ألفًا، بينما يحتاج أكثر من 1.5 مليون شخص إلى مساعداتٍ عاجلة. المستشفيات تعمل بأقل من نصف طاقتها، والكهرباء لا تصل إلا لساعاتٍ معدودة، وشبكات المياه والصرف الصحي شبه مشلولة. وفي المخيمات، يعيش الناس على الفتات: أمهاتٌ يطبخن الرماد بدل الطعام، وأطفالٌ ينامون على الأرض في فصول المدارس، وأطباء يعملون على ضوء الهواتف المحمولة. هذه ليست نهاية الحرب، بل استمرارها في شكلٍ آخر؛ فالحصار والجوع والقهر أدوات قتالٍ لا تقل فتكًا عن القنابل.

ورغم أن الاتفاق نصّ على تسهيل دخول المساعدات، فإن التنفيذ بقي متقطعًا ومتذبذبًا.
فقد أُعلن أن معبر رفح سيبقى مغلقًا حتى إشعارٍ آخر في 18 أكتوبر، بينما يجري إدخال القوافل عبر معبر كرم أبو سالم بعد تفتيشٍ طويلٍ ومعقد. وفي 20 أكتوبر وحده، وُثِّق إدخال 105 شاحنات من المساعدات الأممية والشركاء. هذه الأرقام تكشف حجم التباعد بين النص والواقع، بين لغة البيانات وواقع الجوع. فحين تُدار المساعدات وفق إيقاع السياسة، يصبح الخبز نفسه أداة ضغطٍ تفاوضي، وتتحول المعونات إلى سلاحٍ ناعمٍ في معركة السيطرة.

الفراغ الإداري في غزة يزيد المشهد تعقيدًا. فلا سلطةً فلسطينية قادرة على إدارة القطاع، ولا قبولًا شعبيًا أو دوليًا بوصايةٍ خارجية. إسرائيل تتحدث عن “إدارةٍ مدنية منزوعة السلاح”، والفصائل ترفض أي إقصاء، والنتيجة أن القطاع يُدار اليوم بحكم الضرورة لا الشرعية.

أما على صعيد الوساطة، فتصف الدوحة الاتفاق بأنه ثمرة وساطةٍ ثلاثيةٍ بالتنسيق مع القاهرة وواشنطن، وتؤكد أن التنفيذ مسؤولية جماعية. وقد لعبت مصر دورًا محوريًا في إدارة مسار المفاوضات وضمان التواصل الميداني عبر معبر رفح، في وقتٍ حافظت فيه على توازنٍ دقيق بين التزاماتها الإقليمية وضرورات أمنها القومي. بينما تميل الولايات المتحدة إلى إدارة الأزمة بدل حلّها، ويواصل الاتحاد الأوروبي حضوره المالي والدبلوماسي.
وهكذا يبقى الاتفاق بلا ضمانٍ حقيقي، يعيش على إرهاق الأطراف لا على إرادتهم السياسية.

حتى ملف إعادة الإعمار، الذي كان يمكن أن يكون بوابة أملٍ للفلسطينيين، تحوّل إلى ساحة تنافسٍ جديدة. فالدول المانحة مترددة في التمويل دون ضمانات، وإسرائيل تشترط مراقبة المواد الداخلة، والسلطة الفلسطينية تطالب بالإشراف، فيما ترى المقاومة في ذلك محاولة لإقصائها. ومن وراء كل ذلك، تتشكل شبكةُ مصالحَ اقتصاديةٍ مرتبطةٍ بالحرب، تُعرف اصطلاحًا باقتصاد ما بعد الدمار، حيث يصبح إعادة البناء جزءًا من منظومة الصراع، لا خطوةً لإنهائه.

الاتفاق كذلك لا يعيش في فراغٍ إقليمي؛ فظلاله تمتد إلى لبنان، حيث يقف حزب الله على تخوم مواجهةٍ مفتوحة، وإلى البحر الأحمر حيث تتواصل الهجمات على السفن المرتبطة بإسرائيل، وإلى الضفة الغربية التي تشتعل تحت الرماد. أي تصعيدٍ في هذه الجبهات كفيلٌ بزعزعة الهدنة الهشة في غزة. فسلام غزة لا يمكن عزله عن الأمن الإقليمي، ولا عن توازنات القوى في المنطقة. لا أعتقد أننا أمام لحظة عابرة؛ بل أمام مفترق.

ورغم قتامة المشهد، فإن الحفاظ على الهدنة – ولو مؤقتًا – ممكن إذا ما تحققت ثلاثة شروطٍ جوهرية : آلية مراقبةٍ دوليةٍ نزيهة تُوثق الالتزام وتمنع الخروقات، شراكةٌ فلسطينية موحدة تنهي الانقسام وتعيد للقرار شرعيته، وضمانٌ دولي بالعدالة يحوّل القانون من بيانٍ أخلاقي إلى أداةٍ رادعة. من دون هذه الركائز، ستبقى الهدنة مجرد فاصلٍ بين فصلين من المأساة.

ربما توقفت المدافع، لكن أسباب الحرب ما زالت حية.
فالاحتلال قائم، والحصار مستمر، والعدالة غائبة.
لا يمكن لأي اتفاقٍ أن يعيش على أنقاض الكرامة.
السلام لا يُبنى بالمساعدات بل بالاعتراف بحق الإنسان في الحياة والسيادة، ومن دون هذا الاعتراف، ستظل غزة تعيش في زمنٍ مؤجلٍ بين هدنةٍ تُنتهك كل يوم، وسلامٍ لم يولد بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى