
فرضة ١٩٥٤م..
عيسى بن سالم البلوشي
في السفر، غالبا لا يحنّ القلب إلى الأماكن فقط، بل إلى الروائح والأصوات والبحر الذي علّمنا الانتظار والمغادرة في آنٍ واحد.
وأنا في ماليزيا، حيث الأمطار لا تنام، وحيث البحر يحمل وجوهًا تشبهنا، تذكرت فرضة مجيس، ذاك الميناء الذي لم يكن مجرد شاطئ، بل نافذة من نوافذ عُمان إلى العالم.
من هناك، من ميناء مجان القديم، كانت السفن تُبحر منذ آلاف السنين،
تحمل النحاس والعطور واللبان وغيرها، وتعود محملة بالحكايات واللغات والصداقات البعيدة.
كانت مجيس ميناءً دوليًا بحق تمتد رحلاتها إلى البصرة والهند وشرق إفريقيا والخليج والعالم،
وكانت أرواح البحّارة العمانيين هي الجسر الذي عبر عليه التاريخ والدين والثقافة إلى أممٍ بعيدة.
وحين أسير اليوم في شوارع كوالالمبور، وأسمع الأذان بصوتٍ دافئ يشبه صوتنا، أتذكر أن الإسلام وصل إلى هذه الأرض عبر البحر ذاته من أشرعة العمانيين والحضارمة الذين لم يكونوا تجارًا فقط، بل رسلًا للخير والنور.
كأنّ البحر لا يزال يروي القصة ذاتها :
أن الأوطان لا تُقاس بالمسافة، بل بالذاكرة.
فرضة ١٩٥٤ ليست رقمًا ولا تاريخًا،
إنها رمزٌ لبوابةٍ ما زالت مفتوحة بين القلب والبحر.
هناك، على شاطئ مجيس، ولدت أول فكرة عن العالم، وهناك تعلّمنا أن نُبحر بشجاعة، وأن نعود بسلام،
وأن الحنين هو الميناء الذي لا تُغلقه الجغرافيا أبدًا.
واليوم… أصبحت مجيس ميناءً صناعيًا ضخمًا، يربط عُمان بالعالم، ويعكس ملحمة التحول التي تخوضها بلادنا في طريقها نحو المستقبل. تحول الميناء من فرضة صغيرة إلى مركزٍ استراتيجي ليس صدفةً، بل ثمرة رؤية وطنية وبصيرة قيادية آمنت أن التنمية لا تأتي من الخارج، بل تُبنى من جذور المكان وأحلام الإنسان.
فرضة ١٩٥٤..
حكايةُ ميناءٍ ما زال يُبحر في الذاكرة،
وحكايةُ إنسانٍ يظل قلبه مبحرًا نحو عُمان،
مهما ابتعدت به السواحل.