بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

القرن الإفريقي على حافة الانفجار : طموحات إثيوبيا البحرية تُشعل صراع البقاء مع إريتريا

الدكتور/ عبدالناصر سلم حامد

باحث في قضايا الأمن الإقليمي وإدارة الأزمات في شرق أفريقيا والسودان

تعيش منطقة القرن الإفريقي على إيقاع توترٍ متصاعد بين إثيوبيا وإريتريا، توترٍ لم يعد محصورًا في الخلافات الحدودية، بل تجاوزها إلى معركةٍ على الهوية والمكانة والدور. فمنذ أن فقدت إثيوبيا منافذها البحرية بعد استقلال إريتريا عام 1993، ظل البحر الأحمر هاجسًا استراتيجيًا للنخبة الحاكمة في أديس أبابا. واليوم، ومع صعود مشروع «إثيوبيا البحرية» الذي أعلن عنه رئيس الوزراء آبي أحمد، يتجه هذا الهاجس ليصبح محورًا لصراعٍ إقليمي جديد يهدد بإعادة رسم خرائط النفوذ في القرن الإفريقي.

خلال العامين الماضيين، عادت فكرة «الحق التاريخي في الوصول إلى البحر» لتتصدر الخطاب السياسي الإثيوبي. تصريحات آبي أحمد المتكررة مطلع عام 2025 عن «ضرورة إيجاد منفذٍ بحري لإثيوبيا كمسألة حياة أو موت» أثارت قلقًا واسعًا في أسمرة، التي قرأت تلك التصريحات بوصفها مقدمة لسياسة ضغطٍ تدريجي قد تنتهي إلى فرض أمرٍ واقع على حدودها.
وعلى الرغم من نفي آبي أحمد لاحقًا – في تصريحٍ رسمي في 20 مارس 2025 – أي نية لخوض حربٍ مع إريتريا من أجل البحر الأحمر، فإن تصاعد التحركات على خطوط التماس الشمالية منذ ربيع العام ذاته أوحى بأن النزاع يتجاوز مستوى التصريحات إلى مرحلة الاختبار الميداني.

في المقابل، وجّهت أديس أبابا في 8 أكتوبر 2025 رسالةً رسمية إلى الأمم المتحدة اتهمت فيها جارتها الشمالية بالاستعداد للحرب والتنسيق مع فصيلٍ مسلحٍ في إقليم تيغراي، وهو ما نفته أسمرة بشدة.
لكن مجرد تبادل هذه الاتهامات في ظرفٍ إقليمي هشٍّ يكفي لإشعال سلسلةٍ من التحركات العسكرية والسياسية، إذ لا يحتاج الانفجار في القرن الإفريقي إلى أكثر من شرارةٍ صغيرة.
ووفقًا لتقارير بحثية صادرة عن Chatham House وAfrica Intelligence، فإن الوضع الراهن بين البلدين يوصف بأنه «سلامٌ هشّ في غرفة انتظار الحرب».

المعادلة الداخلية في إثيوبيا تزيد المشهد تعقيدًا. فالدولة الخارجة من حرب تيغراي الدامية (2020–2022) لم تتعافَ بعد من إرهاقها العسكري والاقتصادي.
إقليم أمهرا يشهد اضطراباتٍ مسلحة متقطعة، وأوروميا غارقة في احتجاجاتٍ مزمنة، فيما يعاني الجيش الفيدرالي من تحديات إعادة الهيكلة وفقدان التجانس بين وحداته الإقليمية.
هذه الانقسامات تجعل أي صراعٍ خارجي مغامرة محفوفة بالمخاطر، لكنها في الوقت ذاته قد تُغري القيادة الإثيوبية باستخدام «خيار البحر» لتوحيد الداخل خلف قضيةٍ قومية كبرى.

أما إريتريا فتعتمد مقاربةً دفاعية تقوم على مبدأ «الردع غير المتكافئ»؛ أي استنزاف الخصم في العمق بدل مجابهته مباشرة.
خلال الأشهر الماضية رُصد نشاطٌ استخباراتي متزايد على الحدود الشمالية، وتدريباتٌ محدودة لوحداتٍ إريترية قرب مناطق التماس، ما يشير إلى استعدادٍ متواصل دون إعلانٍ صريح للتصعيد.
فالنظام في أسمرة يدرك أن مواجهة إثيوبيا عسكريًا ستكون مخاطرةً كبرى، لكنه يحرص على ألا يبدو متفرجًا حيال تحركاتها المتسارعة نحو البحر الأحمر.

في ميزان القوة العسكرية، تتفوق إثيوبيا عدديًا وتسليحيًا؛ إذ يتجاوز عدد قواتها النظامية نحو 350 ألف جندي مدعومين بترسانةٍ من الطائرات المسيّرة التركية والإيرانية، في حين يعتمد الجيش الإريتري – الذي يقدَّر عدده بنحو 120 ألفًا – على خبرةٍ قتالية طويلة في التضاريس الجبلية الوعرة وعقيدةٍ قتالية صلبة تتيح له خوض حروب استنزافٍ طويلة الأمد.
لذلك يُرجَّح أن أي مواجهةٍ بين الجانبين ستكون حربًا هجينة: ضرباتٌ محدودة وعمليات استطلاعٍ متبادلة ومواجهاتٌ غير متكافئة على الأرض، دون إعلان حربٍ شاملة.

خطورة الوضع لا تتوقف عند حدود البلدين. فالممر البحري الممتد من مضيق باب المندب إلى قناة السويس يعد اليوم أحد أكثر خطوط الملاحة حساسية في العالم، وأي اضطرابٍ عسكري على الساحل الإريتري أو في الموانئ المجاورة سيؤثر فورًا في حركة السفن وسلاسل الإمداد الدولية.
وهنا يتقاطع النزاع الإثيوبي–الإريتري مع مصالح قوى كبرى: فالإمارات تمتلك قاعدةً بحرية في ميناء عَسَب، والسعودية تتابع الملف ضمن مبادرة «أمن البحر الأحمر»، بينما تراقب مصر التطورات بوصفها امتدادًا لأمنها القومي من النيل إلى الساحل الغربي للبحر الأحمر.
أما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيكتفيان بإصدار بيانات القلق دون تدخلٍ فعلي، في حين تراقب الصين بصمتٍ قلق حفاظًا على استثماراتها في البنية التحتية الإثيوبية.

من الناحية الاستخباراتية، بدأ الصراع فعليًا في الفضاء الرمادي بين الحرب والسلام: حملاتٌ إعلامية متبادلة، تسريباتٌ حول تحركات القوات، واتهاماتٌ باستخدام الطائرات المسيّرة قرب الحدود.
فالحرب الحديثة في القرن الإفريقي لا تُدار فقط بالمدافع، بل بالصور والمعلومات والتأثير النفسي.
كما يشير مراقبون إلى أن الجبهات الإلكترونية أصبحت جزءًا من أدوات الردع الجديدة في المنطقة، حيث تتداخل الرواية العسكرية مع حرب السرديات ويصبح الرأي العام أداة ضغطٍ بحد ذاته.

السيناريوهات المحتملة تتوزع على ثلاثة مسارات رئيسية :

الأول : تصعيدٌ محدود يقتصر على المناوشات الحدودية والضربات الموضعية، وهو الاحتمال الأرجح في المدى القريب.

الثاني : حربٌ بالوكالة تُدار عبر دعم فصائل مسلحة داخل الشمال الإثيوبي، ما يطيل أمد التوتر دون صدامٍ مباشر.

الثالث : انفجارٌ شامل في حال وقوع خطأ تكتيكي أو حادثٍ غير محسوب – كاستهدافٍ خاطئ أو تقديرٍ ميدانيٍ مغلوط – يدفع الطرفين إلى مواجهةٍ مفتوحة.

ورغم أن احتمال الحرب الكبرى ما زال ضعيفًا نسبيًا، فإن غياب الترتيبات الأمنية المشتركة يجعل أي حادثٍ صغيرٍ قابلًا للتحول إلى شرارةٍ مفصلية.

التداعيات الإنسانية لأي مواجهةٍ ستكون كارثية. فالمنطقة لم تتعافَ بعد من آثار مجاعة تيغراي ونزوح دارفور، والمنظمات الإنسانية بالكاد قادرة على تلبية الاحتياجات القائمة.
تكرار مشهد الحصار والتجويع أو استخدام الغذاء كسلاحٍ سيكون كارثةً جديدة في منطقةٍ لم تعرف الهدوء منذ عقود.
وقد حذّرت تقارير أممية حديثة من أن أي نزاعٍ واسع قد يقود إلى موجات لجوءٍ جديدة نحو السودان وجيبوتي، ويهدد بتحويل البحر الأحمر إلى «ممر أزماتٍ مفتوح».

خلاصة القول، إن الصراع بين إثيوبيا وإريتريا لم يعد نزاعًا على خطوطٍ مرسومةٍ على الخرائط، بل على موقع كلٍّ منهما في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل حول البحر الأحمر.
فإثيوبيا ترى البحر مفتاحًا لاستقلالها الاقتصادي ومستقبلها السياسي، بينما تعتبره إريتريا صمام أمانٍ لبقائها كدولة.

وبين الطموح والذعر، تتقاطع حسابات القوى الإقليمية والدولية، ويتحول القرن الإفريقي إلى ساحة اختبارٍ للقدرة على إدارة التوازن لا الحرب فقط.

قد لا تندلع الحرب غدًا، لكنها تكاد تكون حاضرةً في حسابات الجميع.
فالإقليم يقف اليوم على حافة الانفجار، حيث يمكن لقرارٍ خاطئٍ أو استفزازٍ عابرٍ أن يغيّر الجغرافيا السياسية للمنطقة بأكملها.

في النهاية، ليست هذه الأزمة حول البحر فحسب، بل حول من يملك الحق في رسم خريطة القرن الإفريقي القادم، ومن سيبقى واقفًا حين تنتهي العاصفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى