
ما بين عامل ومواطن .. هناك ميزان اسمه العدالة
خالـصـة الصـلـتـيـة
منذ صدور القرار الوزاري رقم 574/2025 بشأن اللائحة التنظيمية لعمل عمال المنازل ومن في حكمهم، انقسمت ردود الفعل في المجتمع بين من رحب بالقرار وعده خطوة متقدمة في حماية الكرامة الإنسانية، وبين من تخوف من آثاره العملية على المواطن الذي يتحمل مسؤولية الاستقدام والتكاليف والمعيشة.
وفي الحقيقة، فإن هذا الجدل ليس جديدا على أي مجتمع يتجه لتصحيح ممارسات قديمة كانت تدار بالعُرف أكثر من القانون، لكن ما يميز هذه الخطوة في سلطنة عمان أنها جاءت بعد مراجعة قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 53/2023 لتعيد صياغة العلاقة بين العامل وصاحب العمل على أساس القانون والعدالة المتبادلة.
اللائحة الجديدة جاءت لتغلق فجوة تشريعية امتدت لأكثر من عقدين بعد القرار القديم رقم 189/2004، وقد نصت على بنود واضحة تحظر العمل القسري والعنف والتحرش، وتمنع احتجاز جواز السفر إلا بموافقة خطية من العامل، كما رفعت الحد الأدنى لسن العمل إلى 21 عاما، وألزمت أصحاب العمل بتوفير المأكل والسكن الملائم والتأمين الصحي ووسيلة النقل، وحددت ساعات العمل باثنتي عشرة ساعة في اليوم تتخللها فترات راحة لا تقل عن ثماني ساعات، مع راحة أسبوعية مدفوعة الأجر لا تقل عن يوم واحد، وإجازة سنوية لا تقل عن 21 يوما، ومكافأة نهاية خدمة بعد عامين من العمل. كما نصت اللائحة على أن حقوق العامل تمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز الانتقاص منه، وعلى أن العامل يعفى من الرسوم القضائية في المنازعات العمالية.
هذه النصوص لا تنتقص من حق المواطن، بل تنسجم مع توجه عمان نحو العدالة الاجتماعية والالتزام بالمواثيق الدولية.
فالعمل المنزلي مهما بدا بسيطا هو عمل ينتج الراحة والاستقرار للأسرة، ويستحق أن ينظم بحماية قانونية تحفظ كرامة العامل وحقوق صاحب العمل معا.
ومن يتتبع التشريعات في المنطقة يجد أن عمان لم تبتعد عن محيطها الخليجي، بل تسير معه في الاتجاه نفسه وإن كانت بأسلوبها المتدرج والمتوازن.
ففي دولة قطر صدر القانون رقم 15 لسنة 2017 الذي ينظم عمل العمالة المنزلية محددا ساعات العمل بعشر ساعات في اليوم كحد أقصى ويوم راحة أسبوعي مدفوع الأجر وثلاثة أسابيع إجازة سنوية مدفوعة ومكافأة نهاية خدمة.
وفي دولة الكويت صدر القانون رقم 68 لسنة 2015 الذي حدد ساعات العمل باثنتي عشرة ساعة وألزم صاحب العمل بتوفير السكن والطعام والرعاية الصحية ومنح العامل راحة أسبوعية وإجازة سنوية مدفوعة.
أما الإمارات العربية المتحدة فقد أصدرت عام 2022 مرسوما اتحاديا خاصا بعمال الخدمة المساعدة، حظر حجز جوازات السفر وأوجب توفير التأمين الصحي والسكن الملائم وأتاح انتقال العامل إلى جهة عمل أخرى في حال الإخلال بالعقد من قبل صاحب العمل.
وعلى الصعيد الدولي هناك نماذج رائدة تستحق النظر إليها بوصفها تجارب ناجحة في الموازنة بين حماية العامل وضبط العلاقة التعاقدية.
ففي سنغافورة مثلاً يلزم القانون صاحب العمل بإيداع ضمان مالي قدره خمسة آلاف دولار سنغافوري كنوع من التأمين لضمان الالتزام بالقوانين ودفع مستحقات العامل، ويفرض يوم راحة أسبوعي لا يمكن استبداله بالمال، إضافة إلى إلزام أصحاب العمل بحضور دورة توعوية قبل استقدام أي عامل منزلي.
أما في هونغ كونغ فالعلاقة بين العامل وصاحب العمل تنظم بعقد موحد معتمد من الحكومة يضمن السكن اللائق والأجر العادل والإجازة الأسبوعية وتتابع السلطات تنفيذ بنوده بدقة.
وفي الفلبين سن قانون “الكسامباهاي” الذي يعد من أكثر القوانين إنصافا إذ يفرض على أصحاب العمل تسجيل العاملين في أنظمة التأمين الاجتماعي والصحي والإسكان ويمنحهم إجازة أسبوعية وتعويضات عن إنهاء الخدمة ويجرم أي شكل من أشكال الإيذاء أو الحرمان من الأجر.
كل هذه النماذج تظهر أن سلطنة عمان لم تنفرد بالاتجاه نحو تعزيز حماية العمالة المنزلية، بل انضمت إلى منظومة دولية متنامية تعترف بأن العدالة في البيوت جزء من العدالة في الدولة.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في صياغة النصوص، بل في تطبيقها ومتابعتها ميدانيا.
فاللائحة العمانية حددت ساعات العمل والراحة لكنها لم توضح آليات المراقبة أو العقوبات التفصيلية لمن يخالفها داخل بيئة العمل المغلقة.
كما أن مهلة الثلاثة أشهر لتوفيق الأوضاع قد تبدو قصيرة بالنظر إلى أعداد العقود القديمة ومحدودية الوعي بالإجراءات الجديدة، ما يستدعي من الوزارة تمديدها أو تقسيمها على مراحل لتجنب الارتباك.
ومن المهم أن ترافق هذا القرار خطة تنفيذ وطنية تقوم على ثلاثة محاور رئيسية :
أولاً :التوعية عبر نشر دليل مبسط باللغتين العربية والإنجليزية يوضح حقوق الطرفين وواجباتهما قبل توقيع العقد وتوزيعه في مكاتب الاستقدام، والسفارات، ومراكز التدريب.
ثانياً : الرقابة الذكية من خلال إنشاء منصة إلكترونية لتسجيل العقود، وتلقي الشكاوى إلكترونيا تتيح تتبع الحالات وضمان الشفافية.
ثالثاً : الحماية المتبادلة عبر تفعيل نظام ضمان مالي بسيط يسترد عند انتهاء العقد دون مخالفات ويستخدم لتعويض أي ضرر يقع على أحد الطرفين.
إن حماية العامل لا تعني الانحياز له ضد المواطن، بل هي انحياز للوطن ذاته، لأن صورة العدالة لا تكتمل إلا حين يشعر الضعيف أنه في مأمن من الاستغلال، ويشعر القوي أنه لا يعاقب إلا إذا تجاوز القانون.
العامل الذي يطمئن إلى بيئة عمل عادلة سيؤدي عمله بإخلاص، والمواطن الذي يثق في وجود نظام منصف لن يخشى أن يظلم أو يُظلم، وبين هذين الطرفين يتجلى وجه الوطن كدولة قانون ومجتمع إنساني.
القوانين العادلة لا تكتب لإرضاء فئة أو تهدئة أخرى، بل تكتب لتبني مجتمعاً يقوم على مبدأ الحق مقابل الواجب، والكرامة التي تصان في بيت المواطن هي الكرامة نفسها التي ترفع اسم عمان بين الأمم، لأن العدل الحقيقي لا يقاس بعدد النصوص بل بعدد الوجوه التي تشعر بالأمان تحت ظلها.