
الصوفية في بخارى وسمرقند.. حين تُصلي الأرواح بلغات متعددة
الدكتور محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد
في قلب آسيا، حيث تمتدّ الطرق القديمة كأوردة من ذهب وتتناثر المآذن مثل نخلات سماوية تولد الحكاية من صمت المصلّين وهدوء الذكر في الزوايا العتيقة هناك في بخارى وسمرقند حيث يتقاطع التاريخ بالحلم كان للصوفيين حكاية أخرى، تبدأ بالدمعة وتنتهي بالابتسامة.
لقد كانت أوزبكستان — في جوهرها — أرضًا تختبر صدق الإنسان مع نفسه. لم تكن الصوفية فيها طقسًا أو ادعاءً، بل كانت أسلوب حياة؛ يزرع الفلاح فيها نية الخير كما يزرع بذرة القمح، ويذكر الله كما يتنفس لا ليرى الناس بل ليبقى قريبًا من قلبه.
يُروى أن الشيخ بهاء الدين النقشبندي، وهو من كبار أهل الطريق في بخارى كان يقول لتلاميذه: “الطريق إلى الله يبدأ بخدمة المخلوق”. ولعل في هذه العبارة ما يختصر سرّ التصوف الأوزبكي كله: البساطة، والصدق، والاندماج في الناس دون زهوٍ أو عزلةٍ متكلّفة.
لم تكن الزوايا هناك تملأها الألوان والأصوات، بل كانت تملؤها أنفاس العارفين، ورائحة الخبز الساخن الذي تُقدّمه أمٌّ فقيرة لضيفها الجائع وهي تبتسم. إنها صوفية العمل لا القول، وصوفية القلب لا الثوب.
وفي سمرقند المدينة التي تشبه مرآة السماء يلمح الزائر أن كل حجرٍ فيها يذكر الله بطريقته:
نقوشٌ متداخلة تحاكي دوران الأفلاك، وألوانٌ تذوب في بعضها كما تذوب النفوس في محبة خالقها.
هناك يفهم الإنسان أن الجمال عبادة، وأن من لم يرَ الله في الجمال لن يراه في المواعظ.
ربما تراجعت الصوفية اليوم في أوزبكستان كما في سائر العالم الإسلامي بين الإفراط والتفريط؛ بين من غالى فحوّلها إلى طقوس بلا روح، ومن أنكرها جملةً وكأنها لم تكن صفحة ناصعة من كتاب الإيمان.
غير أن بقايا أولئك البسطاء ما زالت تُذكّرنا أن الروح لا تموت، وأن الله لا يغيب عن القلوب التي تحبه بصدق.
ربما لم يعرف الناس أن تلك الأرض التي أنجبت علماء الحديث والفقه، أنجبت أيضًا شعراء الروح الذين رأوا الله في الحقل، وفي النهر، وفي دمعة يتيم. إنها أوزبكستان كما رآها المتصوفة: صلاة طويلة تمتدّ من الأرض إلى السماء.