
أردوغان وغياب نتنياهو عن قمة شرم الشيخ : بين دبلوماسية التهديد وصمت القاهرة ..!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
في لحظة كانت العيون تتجه فيها إلى مدينة شرم الشيخ، المدينة التي طالما جمعت الأضداد تحت قباب السلام، ساد صمت غريب حول غياب رجلٍ لا يختفي عادة عن الأضواء. لم يكن غياب بنيامين نتنياهو عن القمة المصرية حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل علامة على اضطرابٍ خفي في هندسة العلاقات الإقليمية، وتوازن القوى بين اللاعبين الكبار في المنطقة.
رغم الروايات المتعددة التي تسابقت الصحف لنشرها، لم يبدُ أن القاهرة فوجئت بالقرار. فمصر، التي أتقنت عبر عقود فن قراءة النيات قبل الأفعال، كانت تدرك أن حضور نتنياهو إلى أرضها هذه المرة سيعني أكثر من مجرد مشاركة في مؤتمر. كان يعني كسر حاجز نفسي وسياسي بينه وبين زعماء عرب ما زالوا يراقبون إسرائيل من خلف جدار الشكوك.
لكن السؤال الذي يهمس في دهاليز السياسة هو: هل علمت القاهرة بالسبب الحقيقي لغياب الرجل؟ هل كان وراء القرار ضغوط خارجية، أم أن الظل الثقيل للملاحقات القضائية التي تلاحقه في المحكمة الجنائية الدولية جعله يتراجع في اللحظة الأخيرة؟
في الكواليس، ترددت همسات عن غضب تركي بلغ حد التهديد المباشر. فالرئيس رجب طيب أردوغان، المعروف بقدرته على تحويل الكلمات إلى أوراق ضغط سياسية، أرسل رسالة حادة إلى القاهرة: “لن تهبط طائرتي على أرض يهبط عليها نتنياهو”. لم تكن تلك مجرد مناورة دبلوماسية، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة مصر على موازنة المعادلة بين الأطراف المتنازعة.
القاهرة، التي تسعى منذ سنوات لاستعادة دورها كضامن للتوازن الإقليمي، اختارت الصمت الحكيم. لم تدخل في سجالات، ولم تُصدر بيانات تبرر أو تهاجم. فالدولة التي تتعامل مع خرائط السياسة كما يتعامل الجراح مع قلب مريض، تعرف أن الكلمات في لحظات كهذه قد تكون أشد خطرًا من الرصاص.
في المقابل، لم يكن أردوغان يتحرك بدافع شخصي فحسب. الرجل الذي يسعى لانتزاع موقع قيادي في معادلة “الشرق الجديد” أراد أن يثبت أن أنقرة لا تزال تمتلك أدوات التأثير في ملفات الإقليم. لقد أراد أن يقول، بلغة السماء لا البيانات، إن تركيا قادرة على تعطيل المشهد إن لم تكن جزءًا من إخراجه.
أما نتنياهو، فبدا كمن وجد في التهديد التركي ذريعة أنيقة للهروب من مشهد محرج. فالرجل الذي يواجه ضغوطًا داخلية واتهامات دولية تتعلق بجرائم حرب، كان يدرك أن صورته إلى جوار قادة عرب في مدينة السلام ستثير غضبًا مضاعفًا، داخليًا وخارجيًا. وربما خشي أن تتحول قاعة المؤتمر إلى منصة مساءلة غير معلنة، خاصة في ظل تصاعد الأصوات التي تطالب بعزله ومحاكمته.
من هنا، لم يكن غيابه مجرد قرار سياسي، بل فعل هروب من لحظة مواجهة مع الذات والتاريخ. فنتنياهو الذي طالما تباهى بقدرته على تحدي العالم، اختار هذه المرة الانسحاب في صمت، ليترك وراءه علامات استفهام معلقة في سماء شرم الشيخ.
وربما كانت القاهرة تعلم أكثر مما تقوله. فالمعرفة في عالم الدبلوماسية لا تُقال، بل تُدار. تركت مصر المشهد يمر كما يمر الغيم فوق صحرائها، تدرك أن الزمن كفيل بكشف الحقائق، وأن من يغيب اليوم قد يعود غدًا حين تتبدل الرياح.
لقد أرادت القمة أن تكون بوابة لسلامٍ جديد، لكنها كشفت عن واقعٍ أكثر تعقيدًا: سلام لا يولد من المؤتمرات، بل من شجاعة مواجهة الذات. وبين تهديد أردوغان وصمت السيسي وتراجع نتنياهو، بدا المشهد وكأنه مرآة لعالمٍ يعيد تعريف نفسه، حيث لا العيد ولا السياسة قادران على ستر عورة الخوف من الحقيقة….!!