بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

الرحمة التي خنقها الضوء

خالـصـة الصـلـتـيـة

 

في زمن صار فيه الإعجاب (اللايك) أقوى من النية، والمتابعون أهم من المحتاجين، تحول بعض البشر إلى عدسات تمشي على قدمين، لا ترى في الألم إلا مشهدا جميلا يستحق أن يوثق، ولا في المعاناة إلا فرصة للظهور.

صاروا يفتشون عن وجه مسن في دار الرعاية، أو عن طفل يتيم يبتسم بتردد، ليصنعوا من لحظته الهشة صورة خادعة ترفع أسهمهم في بورصة المجاملات الرقمية.

أي قسوة هذه التي تجعل الرحمة عرضا، والعطف وسيلة لتجميل الواجهة ؟ المسن لا يريد مقطعا مؤثرا، بل يريد من يمسك بيده حين يثقل الخطو، واليتيم الذي يفتقد الأمان لا يحتاج أن يظهر في فيديو مؤنس للقلب، بل يحتاج قلبا يؤنسه حقا ويحنو عليه دون إعلان أو شعار.

إنسانيتنا لا تقاس بعدد الصور التي نلتقطها مع المحتاجين، بل بعدد المرات التي وقفنا فيها إلى جوارهم حين لم يكن هناك أحد يشاهد. الإنسانية تقاس بالخفاء لا بالضوء، فالخير الذي يصور يفقد جزءا من قدسيته، والرحمة التي تعرض على الناس تصبح سلعة في سوق التفاعل.

نرى بعض الحسابات تملأ الشاشات بمقاطع العطف واللحظات المؤثرة فيما يسمى بالترند الإنساني، لكن أي إنسانية تبنى على استغلال مشاعر من لا يملكون الدفاع عن أنفسهم؟ الدمعة التي تسيل على وجه يتيم أمام الكاميرا ليست مؤثرة، إنها استغاثة صامتة من طفل يتمنى لو لم يصور في لحظته الأضعف، والمسن الذي يُزار في يوم واحد من السنة لا يحتاج أن يُرى مرة، بل أن يُحَس به دائما.

ليست الإنسانية مشهدا في حملة دعائية، ولا عملا موسميا في يوم اليتيم أو يوم المسن، بل هي ممارسة يومية، كتنفس الضمير، وفن الإصغاء قبل العطاء، والستر قبل الشهرة.

العطاء الحقيقي لا يصرخ ليُسمَع، ولا يُصَوَّر ليُرى، إنه يسير بخفة لا يطلب تصفيقا ولا يسعى لاعتراف علني. أما الاستعراض فيلهث خلف الأضواء، يلتقط دمعة ليبيعها في إعلان مؤثر عن نفسه. الفرق بين الاثنين شاسع، العطاء يبقي الكرامة، والاستعراض يسرقها، وقد قيل : من صَوَّر صدقته فقد باع جزءا من ثوابها، لأن الفعل الصادق لا يحتاج شهودا.

ليست المشكلة في الكاميرا، بل في العين التي خلفها. العدسة في يد القلب توثق الجمال، وفي يد المصلحة تشوه المعنى؛ يمكن أن تصور لتُلْهِم، لا لتُستَغَل. يمكن أن تروي القصة بكرامة صاحبها؛ لا على حسابها؛ لكن حين يغيب الوعي الأخلاقي، تتحول العدسة إلى أداة امتهان ناعم لا يُسمَع صوتُه؛ لكنه يترك أثرا عميقا في النفس.

وهنا يبرز واجب الجهات المعنية، من وزارات ولجان حماية الطفل ودور الرعاية والمؤسسات الإعلامية، أن تضع حدا لهذا العبث الأخلاقي عبر تشريعات واضحة تمنع تصوير الأطفال والمسنين في لحظات ضعفهم أو استغلالهم في محتوى ترويجي تحت أي مبرر.
فالصورة التي تلتقط بلا إذن تسرق الكرامة قبل أن تسرق الخصوصية، والرحمة حين تنتهك باسم الظهور تتحول إلى وجه آخر للأنانية.

إن حماية هؤلاء هي مسؤولية أخلاقية، وواجب وطني يعبر عن وعي المجتمع ورُقِيِّه؛ الرحمة لا تحتاج كاميرا لتثبت وجودها؛ بل تحتاج ضميرا يحرس معناها، وحين يختفي هذا الضمير خلف الضوء، تموت الرحمة مختنقة بعدستها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى