
الخادمة .. من يدٍ تُعين إلى أزمةٍ تُهدد الأسرة !
الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي
لم تعد الخادمة مجرّد تفصيل منزلي أو مظهر من مظاهر الرفاه، بل تحوّلت إلى مرآةٍ تعكس تحولاتٍ عميقة في بنية المجتمع والاقتصاد معًا.
كانت يومًا رمزًا للترف الطبقي، لكنها اليوم أصبحت ركيزةً أساسية في حياةٍ يومية تقوم على الاعتماد والتواكل أكثر مما تقوم على المشاركة.
ومع صدور القوانين الجديدة المنظمة للعمالة المنزلية، لم تعد القضية تتعلق بالراحة أو التنظيم، بل تحوّلت إلى عبءٍ اجتماعي واقتصادي يضغط على الأسرة، ويكشف عن أزمةٍ أوسع في النظام المعيشي ذاته.
فما بين حماية الحقوق وتضييق الواقع، يعيش المواطن تناقضًا حادًّا بين واجباته تجاه أسرته وقدرته على الوفاء بها.
من عبودية الخدمة إلى مركز البيت..
في الماضي، كانت الخادمة ظلاًّ لا يُرى، جزءًا من نظامٍ طبقيٍّ بلا صوتٍ ولا حق.
وقد قدّم فيلم Gone with the Wind (1939) صورة رمزية لذلك الزمن، من خلال شخصية “مامي” الخادمة السوداء، التي كانت قلب البيت النابض رغم أنها بلا سلطة أو اعتراف، رمزًا لزمنٍ يبني راحته على عَرَق الآخرين.
وجسّد فيلم «دعاء الكروان» (1959) للمخرج هنري بركات النسخة العربية من هذه المعاناة، إذ تحوّلت الخادمة إلى ضحيةٍ تُستغل وتُدان في آنٍ واحد داخل منظومةٍ اجتماعية ترفض الاعتراف بإنسانيتها.
لكن الزمن قلب الموازين :
ما كان خضوعًا صار سلطة، وما كان هامشًا صار مركزًا.
وفي فيلم Roma (2018)، نرى الخادمة وقد أصبحت العمود العاطفي لأسرةٍ تنهار من الداخل؛ وجودها يرمم ما تهدم، وغيابها يكشف هشاشة كل شيء.
إنها الصورة الحديثة للخادمة التي لم تعد مساعدة بل محور التوازن المنزلي.
أما في السينما العربية، فقُدِّمَت أفلامٌ مثل :
«الخادمة» (1984) صورة مبكرة لانقلاب الأدوار داخل البيت، حين تتحول الخادمة إلى مديرةٍ خفية تُعيد تشكيل الحياة اليومية للأسرة على طريقتها.
القانون بين الحماية والعِبْء..
جاء القانون الجديد المنظم لاستقدام العمالة المنزلية ليحمي الكرامة الإنسانية، لكنه في التطبيق أفرز إشكالاتٍ أعمق.
فالمواطن الذي كان يبحث عن من يسانده داخل بيته، أصبح يواجه منظومةً قانونية مكلفة ترهقه ماديًا ومعنويًا :
كلفة الاستقدام، الراتب، التأمين، السكن، الترحيل، والتصاريح، ومكافأة نهاية الخدمة؛ كلها التزامات تُثقل كاهل الأسر محدودة الدخل؛ حتى أصبح استقدام خادمةٍ واحدة حلمًا مرهقًا.
ومع تصاعد الخطاب الحقوقي العالمي، تحوّلت بعض التشريعات إلى أدوات اقتصادية ناعمة تُدار بها الأزمات.
فالدول التي تفشل في تحقيق الأمان الوظيفي وتخفيض البطالة تلجأ إلى مثل هذه القوانين لتغطية العجز الهيكلي في سوق العمل.
تُقدَّم هذه التشريعات كإصلاحٍ اجتماعي، بينما الهدف غير المعلن هو إعادة المرأة إلى المنزل تدريجيًا وتخفيف الضغط على الاقتصاد المحلي.
العدالة القانونية تحوّلت إلى عِبْءٍ جديد، والحقّ أصبح وسيلة ضغط على الطرف الأضعف – المواطن.
وقد فضح الفيلم الوثائقي Maid in Hell (2018) هذا التناقض بجرأة، كاشفًا الوجه المزدوج للمنظومة الحقوقية التي ترفع شعارات إنسانية بينما تُبقي العاملات في نظامٍ استغلالي مغلّف بالقانون.
ثقافة الاعتماد .. من المساعدة إلى التبعية..
تغيّرت مفاهيم الراحة والتربية والعمل داخل البيت.
فما كان في الماضي مشاركةً أسريةً متكاملة، صار اليوم منظومةً من الاعتماد الكامل على الآخر.
الخادمة لم تعد تُعين فقط، بل تُربّي وتوجّه وتقرّر أحيانًا.
وفي ظل انشغال الأبوين، أصبحت صلتها بالأطفال أقرب من صلة الأمهات أنفسهن، لتغدو العلاقة اليومية بين الأسرة والخادمة أكثر حميميةً من العلاقات العائلية ذاتها.
قدّمت السينما العالمية هذه الإشكالية في فيلم The Nanny Diaries (2007)، حيث تتحول العاملة الأجنبية إلى “أمٍّ بديلة” لطفلٍ يعيش الفقد العاطفي رغم وفرة الرفاهية.
وفي فيلم The Help (2011) نرى الوجه الآخر للعلاقة : الخادمة التي تُربّي أبناء من يحتقرونها، وتعلّمهم الحب أكثر مما يتعلمونه من ذويهم.
بين هاتين الصورتين تتأرجح الأسرة الحديثة، التي فقدت توازنها بين حاجتها للمساعدة واعتمادها الكلي عليها.
أما في الفيلم الكوري Parasite (2019)، فتتحول الخادمة إلى رمزٍ للفجوة الطبقية ذاتها، إذ يؤدي طردها إلى انهيار البيت بأكمله، وكأن النظام الاجتماعي كله يقوم على من تُخفيه الجدران لا من يُزيّنها.
الاقتصاد يتسع .. والحياة تضيق..
الاقتصاد في نموٍّ ظاهر، لكن الحياة اليومية في تقلّصٍ مستمر.
المشروعات تتضاعف، والدخل لا يتحرك، والتكاليف ترتفع كل شهر.
وحين تُعلن القوانين الجديدة باسم “تنظيم السوق” أو “تحسين بيئة العمل”، نجد أنفسنا أمام تحولاتٍ تمسّ جوهر المجتمع أكثر مما تمسّ حساباته المالية.
ففي دولٍ عديدة، ومنها سلطنة عُمان، تُعلن التقارير الرسمية عن فوائض مالية وتحولات اقتصادية كبرى، بينما تبقى معدلات التوظيف شبه ثابتة.
تتوسع الدولة في المشروعات الرأسمالية الكبرى، لكن معظمها لا يخلق فرص عمل حقيقية.
يتحوّل المواطن إلى متلقٍّ للقرارات لا شريكٍ فيها، وتُقدَّم القوانين الاجتماعية كواجهةٍ تغطي العجز في السياسات التشغيلية.
وهكذا تُدار الأزمة لا بحلّها، بل بتبديل أطرافها؛ إذ يُخفَّف الضغط عن سوق العمل الذكوري بإعادة النساء إلى المنازل، وتُغلق الدائرة من جديد.
أزمة تحت غطاء الرفاه..
القضية لم تعد عن الخادمة وحدها، بل عن النظام الذي يُدير البيت والدولة معًا.
حين تتحول المساعدة إلى تبعية، والحق إلى عبء، يفقد الإنسان اتزانه بين الحرية والمسؤولية.
الخادمة ليست سبب الأزمة، بل مرآةٌ لها؛ هي انعكاس لاقتصادٍ يُحمّل الفرد كل الأعباء باسم الكفاءة، ولمجتمعٍ يتغيّر من الداخل دون أن يشعر.
وفي العمق، يتقاطع المشهدان : بيتٌ يعتمد على خادمةٍ واحدة، ودولةٌ تعتمد على موردٍ واحد.
كلاهما يظن أنه مستقرّ، حتى تغيب تلك الركيزة، فينكشف الهشّ في البنيان.
ربما ليست الأزمة في وجود الخادمة، بل في غياب القدرة على الاستغناء عنها – سواء في البيت أو في الدولة.
وهنا يُطِلُّ السؤالُ الذي ينبغي أن يُقلقَنا جميعًا:
كيف يمكن أن يربح الاقتصاد دون أن يُشغّل؟
وكيف يزدهر المجتمع بينما مواطنوه يقفون في طابور الانتظار؟
حين نجد لهذين السؤالين جوابًا، يمكن عندها أن تعود الخادمة إلى دورها الطبيعي :
“يدٌ تُعين .. لا أزمة تُهدد”..