بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

منزل للبيع … والسبب: غياب بروتوكول الجيرة!

الكاتب أ. عصام بن محمود الرئيسي
مدرب في البرتوكول المؤسسي – مؤلف أعمال متخصصة في المراسم

 

لفت انتباهي مؤخرًا إعلان بيع منزلٍ جميل في حيّ راقٍ، لكنّ ما صدمني لم يكن السعر أو المواصفات، بل سبب البيع: سوء الجيرة.هذا السبب وحده كفيل بأن يجعلنا نتأمل بعمق في معنى الجوار، وكيف تحوّل من علاقة إنسانية دافئة إلى مصدر توتر ونفور في بعض الأحياء.

إنّ هذه الظاهرة تكشف عن أزمة في الذوق الاجتماعي، وفي زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتضيق فيه دوائر التواصل الحقيقي، أصبح من المؤلم أن نسمع عن منازل تُباع لا بسبب ضيقٍ في المساحة، بل بسبب ضيقٍ في الخُلق؛ عن أسرٍ تهاجر من بيوتها لا لعيبٍ في البناء، بل لسوء الجيرة، هذه الظاهرة تكشف عن أزمة في الذوق الإنساني والاجتماعي، الذي طالما شكّل أساس التعايش الراقي في المجتمعات المتحضّرة.

إن فن التعامل مع الجار ليس مجرد سلوك اجتماعي عابر، بل هو انعكاس لحُسن التربية، وميزانٌ يُقاس به رقيّ الأفراد والمجتمعات. فالبروتوكول الاجتماعي الحقيقي يبدأ من البيت، ومن أول دائرة اجتماعية نعيشها يوميًا: الجار.

البروتوكول الاجتماعي في معاملة الجيران:

من أرقى صور السلوك الإنساني أن نُحسن إلى الجار، فالبروتوكول الاجتماعي لا يبدأ من قاعات المؤتمرات ولا من اللقاءات الرسمية، بل من أبسط دوائر الحياة اليومية، فالجار هو أول اختبار حقيقي للذوق، والبيئة المحيطة بالمنزل هي أول ميدان يُقاس فيه مستوى التحضّر. فمن أصول اللياقة أن نحافظ على هدوء بيئتنا المنزلية، فلا نزعج جيراننا بأصوات مرتفعة، أو حركات غير منضبطة. ومن أصول الذوق ألا نتطفّل، ولا نراقب، ولا نُكثر من السؤال فيما لا يعنينا.

بل حتى في تفاصيل بسيطة – كإيقاف السيارة أو التخلص من النفايات – يظهر معدن الإنسان الراقي، الذي يدرك أن لكل جار حقًّا في الراحة، كما له هو حقٌّ في الخصوصية.

كما يُعلّمنا البروتوكول أن من حسن الجيرة المبادرة بالتحية والابتسامة، والتهنئة في المناسبات، والمواساة في الأحزان. فهذه اللفتات الصغيرة تُشيّد جسور المودة وتُطفئ الكثير من الخلافات قبل أن تندلع.

هدي النبي ﷺ في معاملة الجيران:

لقد سبق الإسلام كل الأعراف والمواثيق في إرساء قواعد الجيرة الراقية، فقد قال النبي ﷺ: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وهي وصية تضع الجار في مكانة تكاد تقارب القرابة، وقال أيضًا: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وهذه قاعدة ذهبية في فن التعامل، تُعبّر عن الإيمان لا بالأقوال، بل بالأفعال.

بل إن الرسول الكريم ﷺ جعل حسن الجوار مقياسًا للإيمان الحقيقي، فقال: «خيرُ الجيران عند الله خيرُهم لجاره»، فما أعظم هذا السموّ في المعنى، وما أرقى هذا المنهج في تهذيب السلوك الإنساني.

حين ننظر في جوهر البروتوكول الاجتماعي، نجد أنه في أصله دعوة إلى الذوق، واحترام الآخرين، وتنظيم العلاقات الإنسانية على أسس من الاحترام واللباقة.

وهذا ما نادى به الإسلام قبل قرون؛ فالدين والبروتوكول يلتقيان في هدفٍ واحد: صون الكرامة الإنسانية، وإشاعة الودّ والسكينة بين الناس.

ولذلك يمكننا القول إن حسن الجوار هو أول اختبار عملي للبروتوكول الاجتماعي في حياتنا اليومية، فكيف نتحدث عن تمثيل مؤسسي راقٍ ونحن لا نحسن تمثيل قيمنا في أبسط العلاقات مع الجار؟
إننا بحاجة إلى إحياء “فن الجيرة” كما نُحيي أي فنّ من فنون الحياة الراقية.

أن نُدرّس أبناءنا أن الجار ليس مجرد شخص يسكن بجوارنا، بل شريك في الطمأنينة، وسندٌ في المواقف، وصوتٌ يسمع أفراحنا وأتراحنا، فما أجمل أن يكون البيت الطيب بجوار بيت طيب، لا جدارًا يفصل بين الناس، بل قلبًا يجاور قلبًا.

وأخيرا، البروتوكول الحقيقي هو أن يعيش الإنسان راقيًا حتى في أبسط تفاصيل حياته… وأجملها وهي الجوار.

وعلى الخير نلتقي، وبالمحبة نرتقي…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى