بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

منظومة غريبة .. حين يصبح الاجتهاد تهمة

الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي

 

حين تتحول الكفاءة إلى عبء، والطموح إلى جريمة، ندرك أن الخلل لم يعد في الأفراد، بل في المنظومة ذاتها. لدينا وزراء، وفنانون، ولاعبون، وقادة في كل مجال… الأسماء كثيرة، لكن النتيجة واحدة : ذيل القائمة .. لماذا ؟. لأننا لا نُعِدّ أحدًا قبل أن نُكلّفه، ولا نزرع لكي نحصد. ننتظر الصدفة لتلد لنا وزيرًا أو فنانًا أو عبقريًا، ثم نرميه في الميدان ونطالبه بالبطولات، وحلّ الأزمات، وتحقيق الإنجازات. ما زالت مفاتيح المناصب في أيدي القرب والولاء والتوصية، بينما الكفاءة تقف في الصف الأخير.

الفرق بيننا وبين غيرنا أن الآخرين لا يهبطون من السماء، بل يُصنعون على الأرض – يُكتشفون ويُدعَمون ويُؤهَّلون ويُكافأون، ولأننا لم نفعل، بقينا نتحرك دون أن نصل، ونُحمّل المواطن وِزْرَ الإخفاق، وكأن الخلل فيه لا في المنظومة التي رسمت له طريق الفشل. نكمم أفواه المبدعين ونكسر أجنحتهم حتى لا يحلّقوا أعلى من المسموح، ونخسرهم لأنهم تجرأوا على الاجتهاد. في بلادٍ كهذه، يصبح العمل الجاد جريمة، والإخلاص مغامرة، والطموح خروجًا على النص.

وعندما يتحقق فوز أو إنجاز، تهرع المنظومة لاقتسام الصورة. نسأل : لماذا لا نفوز بالجوائز والكؤوس إلا ما ندر؟؛ لأننا لا نحتفي بمن صنع الفوز، بل بمن تصدّر المشهد إلى جواره، ومن تفضّل بالموافقة على مشاركته. المنجز يُنسى، والمُصفّق يُكرَّم، ويتكرر المشهد عامًا بعد عام حتى فقدت الكلمات معناها، ومن يعمل في الظلّ؛ يظلّ في الظلّ؛ لأن الضوء في بلادنا يُمنح بقرار لا باستحقاق.

ألا يكفينا ما نعانيه من فشلٍ وسوء إدارة ؟
ألا يكفينا أن نُختَصر في عبارة “جيران دبي”؟!!.
بلد التاريخ والحضارة، ونملك أجمل التضاريس وأغنى الجغرافيا، ومع ذلك نفشل في السياحة، ويُهمّش خريجونا الموهوبون.

الموهبة ثروة، أما عندنا فهي عبء على الموازنة!. كم من طيّارٍ أنفقت أسرته ما يفوق خمسين ألف ريال ليعود حاملاً شهادةً ودهشة، ثم يُرفض لأنه لم يُرسَل عبر الجهة “المعتمدة”!، وفي المقابل؛ يُستعان بأجنبي لا يعرف جغرافية البلاد. هكذا تتحول الفرص إلى غنائم تتقاسمها الدوائر الضيقة، ويصبح الوطن ملعبًا للمحاباة.

وكم من حامل دكتوراة لا يُسمح له بالاستشارة أو التدريس في جامعات بلاده، بينما يُستقدم من الخارج من لا يحمل حتى الحد الأدنى من الكفاءة. قصص كهذه لم تعد استثناءً، بل قاعدة تُختزل في جملة واحدة : نحن لا نحارب الجهل؛ بل نحارب من يحاول تجاوزه؛ أما التكريم والتقدير فلهما حساب آخر. فنانة مثّلت عملًا واحدًا فقط فنالت وسام الدولة ثم اختفت؛ بينما عشرات ممن خدموا الفن والثقافة نصف قرن لم يُذكروا يومًا.

التكريم عندنا كالبطاقة الموسمية؛ تُمنح لمن يُرضي، لا لمن يُبدع. وكم من اسمٍ يُكرَّم عامًا بعد عام، وكأننا ندور في حلقة مغلقة لا تعرف الوفاء ولا العدالة.

نعيش في بيئةٍ طاردةٍ للعقول، خانقةٍ للأفكار، ثم نتساءل بدهشة : لماذا لا نصل إلى كأس العالم ؟!، ولماذا خرجنا من خارطة الدراما والسينما العربية ؟!.

بلدٌ يكثر فيه الشعراء والأدباء، ويقلّ فيه المبدعون والمبتكرون، بلدٌ يجيد القول ولا يتقن الفعل. فلا غرابة أن يتصدر المجاملون والمتشدقون؛ بينما يهاجر العلماء، وأن يُحتفى بالقصيدة أكثر من المختبر، وبالمديح أكثر من المنجز. بلدٌ لا يُدرَّس فيه المسرح ولا السينما ولا الموسيقى ولا الفلسفة، ولا حتى الرياضة والسياسة كما يجب؛ كيف له أن يحتكم إلى العقل ويصنع الفعل؟!.

نصف خريجينا من تخصصات التقنية، لكننا في ذيل قائمة الدول التقنية، لأن أغلب من يُدرّسونها لا علاقة لهم بالبرمجة والتقانة، بل هم مشغّلو حواسيب تعلموا بالخبرة، ولذلك فاقد الشيء لا يعطيه.

أما “الابتكارات” التي تُعلن تحت شعار الذكاء الاصطناعي، فليست سوى نسخٍ مكررة لأحلامٍ بلا أدوات، لأن من يقودها لا يؤمن بالعلم، ولا يحترم الإبداع.

نريد منظومة تصنع الإنسان قبل أن تصنع الشعارات، تُكافئ الكفاءة لا الولاء، وتفتح الباب للمجتهد لا للمقرّب.

“كل ما نحتاجه هو عدالة تُنصف المبدع، لا منظومة تبتلعه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى