
الحرب امتدادٌ للسياسة
الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري
محلّل سياسي ، ودبلوماسي ، وسفير سابق
الاستراتيجية هي فنُّ المواءمة بين الغايات والوسائل والظروف
إن لحظة التحوّل الكبرى أمام العرب اليوم ليست عسكرية بل فكرية. الرهان ليس على عدد الصواريخ ولا على طول النيران بل على قدرتنا على تحويل الردع إلى شرعية والانفعال إلى عقل سياسي مؤسسي.
فالعالم الجديد لا يحترم من يصرخ بل من يصوغ نظامه الخاص.
الشرعية المقبلة لن تُقاس بالشعارات بل بقدرة الأمة على أن تربط أمنها بحقوقها وعدالتها بمصالحها وسياستها بكرامتها.
الدبلوماسية ليست فن إنهاء الحروب بل فن تصميم العالم بعدها.
أن نصمم العالم بعد الحرب لا أن ننتظر ما يصممه الآخرون لنا. عندما يتقدّم العقل لتحديد الهدف تصبح الحرب أداةً من أدوات السياسة وعندما تغيب الرؤية تتحوّل إلى فوضى تبحث عن معنى.
ومع ذلك، فإن التاريخ لا يعيد نفسه عبثًا. فكما كانت حرب 1973 بابًا لدبلوماسيةٍ جديدة قد تكون حرب 2023 بابًا لوعيٍ استراتيجي جديد يفرض على العرب والإسلاميين معًا أن يعيدوا تعريف مفهوم النصر.
قال صلاح الدين الأيوبي في أحد حروبه: العقل قبل السيف، لأن السيف بلا عقلٍ لا يفتح إلا باب الثأر.
من يظن أن السلام مكافأةٌ للأخيار لا يفهم منطق السياسة.
السلام الحقيقي هو نتيجة هندسةٍ دقيقةٍ للمصالح تربط الردع بالحقوق، والأمن بالشرعية، والقوة بالمسؤولية.
إن بين أكتوبر 1973 وأكتوبر 2023 نصف قرن من التحوّلات لكن الفارق الحقيقي بينهما هو فارق الوعي لا السلاح. في الأول كان الهدف هو فتح باب السياسة بالقوة وفي الثاني كانت الصدمة فاشتعلت النار تبحث عن عقلٍ يوجّهها.
حين قرّرت القاهرة الحرب لم تكن تبحث عن نصرٍ مطلق بل عن توازنٍ جديد للكرامة والقرار. كان أنور السادات يدرك أن كسر أسطورة الجيش الذي لا يُقهر هو انتصارٌ استراتيجي بحد ذاته، وأن العبور ليس عبور القناة فحسب؛ بل عبور من الهزيمة إلى المبادرة.
لقد علّم أكتوبر الأول؛ أن الحرب لا تُخاض لتدمير العدو فقط بل لتغيير طريقته في التفكير.
هكذا خرج العرب من الحرب وهم يمتلكون لغةً جديدة في السياسة لغة القوة الواعية التي تستخدم النار لتفتح باب الدبلوماسية لا لتغلقه.
في 7 أكتوبر 2023، دوّى صوتٌ مختلف.
الحدث لم يكن عمليةً محدودة بل انفجارًا استراتيجيًا في بنية الوعي الإقليمي والدولي.
تراجعت فكرة الأمن الإسرائيلي المطلق واهتزّت قناعات العواصم الغربية بأن الصراع قد انتهى.
لكن المفارقة الكبرى أن تحركت الولايات المتحدة بآلية ردعٍ فورية :
أرسلت حاملات الطائرات جيرالد فورد وآيزنهاور إلى شرق المتوسط في رسالة واضحة بأن واشنطن ستمنع أي تمدّد إقليمي للحرب.
رغم ذلك، فرض الحدث نفسه على النظام الدولي :
أعاد تشكيل الاصطفافات بين محور المقاومة والتحالفات الغربية.
أعاد إحياء فكرة الردع العربي–الإسلامي ولو بصورة رمزية.
لقد برز من رحم تلك الحرب مفهوم الردع المركّب :
قوةٌ عسكرية يوازيها ضغطٌ دبلوماسي، وشرعيةٌ إنسانية تسعى لتقنين الصراع بدل تمديده.
إنه إدراكٌ متأخر أن الردع ليس احتكار القوة؛ بل إدارة التوازن بين الخوف والرجاء، وبين الغضب والعقل.