
أثر القصة في النفس البشرية
د. محمد السيد يوسف لاشين
أستاذ علم النقد الاجتماعي والتفكير الناقد
القصة ليست مجرد حكاية تُروى لتسلية السامع أو القارئ، بل هي فعلٌ إنساني عميق يتجاوز حدود الكلمات ليغرس في النفس بذور المعنى، ويوقظ في الوجدان طاقات كامنة، ويعيد تشكيل الوعي الجمعي والفردي على حد سواء. منذ أن جلس الإنسان الأول حول النار، يروي لأبنائه حكايات الصيد والنجاة، كانت القصة أداةً لتثبيت الهوية، ونقل الخبرة، وتشكيل المخيلة.
إن أثر القصة في النفس البشرية ليس عارضًا أو ثانويًا، بل هو أثر ممتد يتغلغل في طبقات الوعي واللاوعي، ويعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته وبالعالم.القصة تُشبه المرآة التي تعكس للإنسان صورته الداخلية، لكنها لا تكتفي بالانعكاس، بل تُعيد تشكيل تلك الصورة في قالب فني يتيح له أن يرى ذاته من زاوية جديدة.
حين يقرأ المرء قصة عن بطلٍ يواجه الخوف، أو عن إنسانٍ ينهض من كبوة، فإنه يجد نفسه في تلك المواقف، ويستشعر أن التجربة ليست بعيدة عنه، بل هي جزء من احتمالات وجوده. هذا التماهي النفسي يفتح أمامه أبوابًا للتأمل، ويمنحه فرصة لإعادة النظر في مواقفه الخاصة.علم النفس الحديث يثبت أن التقمص الوجداني الذي يحدث أثناء قراءة القصة يُنشّط مناطق في الدماغ مرتبطة بالتجربة الحسية والعاطفية،
وكأن القارئ يعيش الحدث لا يقرأه فقط. هذا التفاعل العصبي يفسر لماذا تبقى بعض القصص محفورة في الذاكرة، ولماذا تُحدث أثرًا طويل الأمد في السلوك والقرارات.القصة ليست فعلًا فرديًا فحسب، بل هي جسر يربط الإنسان بجماعته. حين تُروى الحكايات الشعبية، أو الأساطير القديمة، فإنها تُعيد إنتاج القيم المشتركة، وتُرسّخ الانتماء، وتُذكّر الأفراد بأنهم جزء من نسيج أكبر.
في هذا السياق، تصبح القصة وسيلة للتربية الثقافية والاجتماعية، فهي تُعلّم الأطفال الشجاعة عبر حكايات الأبطال، وتُغرس في النفوس قيم الصدق والوفاء عبر سرديات الحكمة.من منظور علم الاجتماع، القصة تُعدّ أداةً لتشكيل الهوية الجمعية، إذ تُعيد إنتاج الرموز والمعاني التي يتفق عليها المجتمع. لذلك نجد أن الأمم التي تُحافظ على تراثها القصصي أكثر قدرة على مواجهة التحديات، لأنها تمتلك مخزونًا من المعاني التي تُلهم أفرادها وتشدّهم إلى جذورهم.
القصة ليست مجرد فن، بل هي أيضًا علاج. في مدارس العلاج النفسي بالقص، يُستخدم السرد كوسيلة لمساعدة المرضى على مواجهة صدماتهم وإعادة صياغة تجاربهم المؤلمة في قالب قصصي يمنحهم القدرة على الفهم والتجاوز. حين يروي الإنسان قصته، فإنه يُعيد ترتيب أحداثها، ويُضفي عليها معنى، فيتحول الألم إلى تجربة، والجرح إلى درس، والصدمة إلى بداية جديدة.الأبحاث العلمية تؤكد أن سرد التجارب الشخصية يُخفّض من مستويات التوتر، ويُعزز من قدرة الدماغ على معالجة المشاعر السلبية.
وهذا يفسر لماذا يلجأ الكثيرون إلى كتابة اليوميات أو قراءة القصص في لحظات الضيق، إذ يجدون فيها عزاءً داخليًا، ونافذةً على أفق أرحب.المخيلة البشرية هي المحرك الأساسي للإبداع، والقصة هي الوقود الذي يُغذّي تلك المخيلة. حين يقرأ الإنسان قصة خيالية عن عوالم بعيدة أو شخصيات أسطورية، فإنه يُحرّر عقله من قيود الواقع، ويُتيح له أن يتصور إمكانات جديدة. هذا التمرين الذهني لا يقتصر على المتعة، بل يُسهم في تطوير قدرات التفكير الابتكاري وحل المشكلات.الدراسات العصبية تشير إلى أن قراءة القصص الخيالية تُنشّط مناطق الدماغ المسؤولة عن التخيل والتصور المستقبلي، مما يجعل القارئ أكثر قدرة على الإبداع في حياته العملية.
لذلك نجد أن المجتمعات التي تُشجّع على قراءة الأدب القصصي تُخرّج أجيالًا أكثر ابتكارًا ومرونة في مواجهة التحديات.القصة تُحرّك المشاعر بعمق، فهي تُضحك وتُبكي، تُثير الحنين وتُوقظ الأمل. هذا التنوع العاطفي يجعلها أداةً فريدة لتربية الوجدان. حين يقرأ الطفل قصة عن صداقة بين شخصيتين، فإنه يتعلم معنى الوفاء، وحين يقرأ قصة عن الظلم، فإنه يُدرك قيمة العدالة. هذه التربية الوجدانية لا تُقدّمها القوانين أو التعليمات الجافة، بل تُقدّمها القصة في قالب حيّ نابض بالعاطفة.
من منظور علم التربية، القصة تُعدّ وسيلة فعّالة لتعليم القيم، لأنها تُقدّمها في سياق عاطفي يجعلها أكثر رسوخًا في النفس. وهذا يفسر لماذا تبقى القيم التي نتعلمها من القصص أكثر ثباتًا من تلك التي نتلقاها عبر التوجيه المباشر.القصة تُوحّد البشر عبر الثقافات واللغات، فهي لغة عالمية يتشاركها الجميع.
حين يقرأ إنسان في الشرق قصة كتبها كاتب في الغرب، فإنه يجد نفسه في التجربة الإنسانية ذاتها: الحب، الخوف، الأمل، الفقد. هذا التشابه يُعيد التأكيد على وحدة التجربة البشرية، ويُذكّرنا بأننا جميعًا نعيش تحت سماء واحدة، مهما اختلفت تفاصيل حياتنا.الأبحاث في علم الأنثروبولوجيا تُظهر أن جميع الثقافات تمتلك قصصًا عن الخلق، وعن البطولة، وعن الخير والشر. هذا التشابه يُشير إلى أن القصة ليست مجرد فن، بل هي حاجة إنسانية أساسية، تُعبّر عن جوهر الوجود المشترك.
القصة ليست كلمات تُسطر على الورق، بل هي حياة تُعاد صياغتها في قالب فني، لتُصبح أداةً للتأمل، والعلاج، والتربية، والإبداع، والانتماء. أثرها في النفس البشرية عميق ومتعدد الأبعاد: فهي تُحرّك المشاعر، تُشكّل الهوية، تُغذّي المخيلة، وتُعيد للإنسان قدرته على مواجهة ذاته والعالم. إن القصة، في جوهرها، هي فعل إنساني يربط الماضي بالحاضر، ويُطل بنا نحو المستقبل، لتظل دائمًا مرآةً للروح، وجسرًا بين القلوب، ونافذةً على الأفق الإنساني الواسع.












