بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

‏من الوعي الجريح إلى الوعي المُنتج

الدكتور/ عدنان بن أحمد الأنصاري

محلّل سياسي، ودبلوماسي، وسفير سابق

 

‏تخبرنا التجارب الكبرى أن النهضة ليست قدرًا لأمة دون أخرى، بل هي قرار.
‏لم تكن اليابان مقدّرة للنهضة بعد أن دُمرت بالقنابل الذرية،
‏ولا كانت ألمانيا مهيّأة للصعود بعد أن صارت كومة رماد،
‏ولا كانت الصين مرشحة لقيادة العالم بعد قرن من الإذلال،
‏ولا كانت روسيا قادرة على العودة بعد انهيار إمبراطورية القرن العشرين.
‏لكنهم نهضوا…
لأنهم قرروا أن الإهانة لا تكون آخر السطر، بل أول الجملة.

‏وإن الأمة العربية، بكل تاريخها وثرواتها وعقولها وموقعها وطاقاتها،
‏إذا امتلكت الإرادة نفسها، والعقل نفسه، والجرأة نفسها،
‏فإن نهضتها لن تكون حدثًا عابرًا..
‏بل تحولًا حضاريًا يعيد رسم ملامح القرن الحادي والعشرين.
‏وهكذا، كما قال المفكر هيغل :
‏“الرجل لا يتعلم من التاريخ .. إلا حين يبدأ بكتابته من جديد”.

‏إن السياسة الفكرية التي تتبناها الأمة العربية اليوم يجب أن تنطلق من لحظة وعي تاريخية تُدرك فيها أنها تقف على مفترق طرق:
‏– طريق أول يقود إلى مزيد من الارتهان، والتبعية، والتآكل البطيء.
‏– وطريق ثانٍ يقود إلى نهضةٍ تُعيد ترتيب علاقتها بالعالم وتستعيد موقعها الطبيعي في التاريخ.

‏إن المستقبل لا يُمنح، بل يُصنع والأمم التي تنهض ليست تلك التي تملك القوة فقط، بل تلك التي تملك الإرادة والمعنى والمشروع.
‏وإذا استطاعت الأمة العربية أن توحّد بين وعيها الجريح ووعيها المنتج، وبين جذورها التاريخية ورؤيتها المستقبلية، فإن نهضتها ستكون واحدة من أهم التحولات الحضارية في القرن الحادي والعشرين.

‏في عالمٍ يتغيّر بسرعة الضوء، وتُعاد فيه صياغة موازين القوى وفق منطق العلم والاقتصاد والتكنولوجيا، تقف الأمة العربية أمام سؤال مصيري لا يمكن تأجيله:
‏كيف تتحوّل من أمةٍ مستهلكة لمنتجات الآخرين، إلى أمةٍ تصنع أدواتها ومفاهيمها ومصيرها؟
‏إنها ليست أزمة موارد ولا كثافة بشرية ولا موقع جغرافي؛
‏فالتاريخ يخبرنا بأن الأمم التي تنهض لا تفعل ذلك بالثروة الطبيعية وحدها بل تنهض الأمم حين يرتفع وعيها فوق جراحها.

‏ولذلك، فإن أول بند في السياسة الفكرية العربية يجب أن يبدأ من الاعتراف الواعي بالإهانة؛ ليس اعترافًا انفعاليًا، بل تشخيصًا معرفيًا لضياع المسار.
‏فالأمة التي تتعرّض للانكسار ثم تواصل حياتها كأن شيئًا لم يكن، إنما تدفن أسباب هزيمتها وهي لا تدري. أما الأمة التي تتفحّص جراحها، وتعيد قراءة تاريخها بلا تزييف ولا جلد للذات، فهي الأمة المُهيأة للتحوّل. والتحدي يصنع الأمم إذا عرفت كيف تستجيب.
‏والاستجابة الأولى هي الوعي بالحقيقة:
‏نحن أمة تعرضت لإهانة تاريخية معرفية وسياسية وحضارية، لكن الإهانة ليست قدَراً، بل مادة خام للنهضة إذا وُظّفت بذكاء.

‏من هذا الوعي تنطلق الخطوة الثانية :
‏إعادة بناء العقل الجمعي.
‏فالعقل العربي اليوم يعيش حالة من التشتت فهو يتأرجح بين تراث ضخم لم يُفهم كما يجب، وحداثة وافدة لم تُهضم كما ينبغي. والسياسة الفكرية هنا تقتضي أن نعيد ترتيب العلاقة بين التراث والحداثة :
‏لا تقديس أعمى للتراث، ولا تبعية عمياء للغرب، بل استعادة لُبّ التراث بوصفه منظومة قيم منتجة للنهضة، لا مجرد محفوظات ثقافية. وكما يقول الفيلسوف الياباني فوكوزاوا :
‏“نهضتنا نجحت حين قبلنا التغيير دون أن نتخلى عن أنفسنا.”
‏وهذه المعادلة هي التي فشلت فيها الأمم التي حاولت استعارة نماذج الآخرين دون أن تفهم ذاتها.

‏وتأتي الخطوة الثالثة في السياسة الفكرية جة:
‏صياغة مشروع معرفي عربي جديد.
‏إن العالم لم يعد يتحرك بالخطابة، بل بالمعرفة والمعرفة اليوم ليست مجرد معلومات، بل “قوة ناعمة” و”قوة صلبة” في آنٍ واحد. والسياسة الفكرية العربية يجب أن تربط بين:
‏– التعليم بوصفه صناعة للإنسان المنتج،
‏– والإعلام بوصفه صناعة للوعي الجمعي،
‏– والبحث العلمي بوصفه صناعة للمستقبل.
‏ولذلك يجب أن تتبنى الدول العربية سياسة تعليمية جديدة تُعيد مركزية العقل والنقد والمنهج، وتفكّ الارتباط بين التعليم والتلقين، وتجعل من المدرسة والجامعة مصنعًا للعقول لا مخزنًا للشهادات.

‏ثم تأتي خطوة إحياء النخبة في شكلها الجديد:
‏نخبة مفكرة، صانعة للمعنى، قادرة على قراءة العالم، تملك الجرأة على طرح الأسئلة الصعبة، وتملك المسؤولية على صناعة الإجابات الأصعب هذه النخبة ليست فئة فوقية منعزلة، بل قيادة مجتمعية تنتج الرؤية وتُحرك القيم، وتعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة. فكما يقول المفكر إدوارد سعيد : ‏“المثقف الحقيقي هو من يمتلك الشجاعة ليكون ضمير مجتمعه.”

‏النهضة مشروعٌ مكلف، لكنه أقل كلفة من البقاء في القاع. ‏فالأمة التي لا تستعد لدفع ثمن التغيير ستدفع أضعافه ثمنًا للبقاء في الهامش والتاريخ لا ينتظر المتردّدين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى