بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

معانقة الذكريات والأحلام التائهة..

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب صحفي وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

 

غلبني النوم يا صديقي، لكنه لم يكن نومًا عابرًا، بل انقلابًا ناعمًا على كل ما يثقل الروح. فإذا بي أطوف فوق شواطئ لارنكا وليماسول، أراقص مياهها الزرقاء كأنها مرآة تحفظ وجهي حين كنت أكثر براءة وأقل حكمة. أسير في نيقوسيا، أعبر خط التماس بين شطرين انقسما كما تنقسم القلوب حين يداهمها الحب ثم يفرّ. ثم تحملني الذكريات إلى وارسو بثلوجها القاسية، وبرلين وهامبورج وميلانو وأثينا وزيورخ وجنوب فرنسا وبحر الشمال… مدن تتداخل في بعضها كأنها شريط سينمائي فقد صانعه السيطرة على المشاهد.

لكن الحلم، كالعادة، لا يكتمل.
فقد قرر مكبّر الصوت في القرية أن يؤدي دوره في التاريخ، فإذا بصوت جهوري يصعقني:
“انتخبوا الملك أحا… محرّر القطرين وفاتح بلاد الأندلس ومُحرّر بيت المقدس!”

قفزت من فراشي هلعًا وهتفت بعفوية نائمة:
“عاش الملك أحا!”
ذاك الذي سيحرّر قريتنا – ولو على الورق – من الضوضاء والصخب والنفاق والرياء.
إنه المشهد القروي الذي لا يُهزم: حلمٌ ينهار تحت أقدام دعاية لا تعرف إلا المبالغة.

ومع ذلك، لم تستسلم الأحلام.
عاد سحرها بخيال يشبه عينيكِ يا بلاد الجن والملائكة،
كالنجمة التي تستريح في حضن الليل،
تهدي الضياء وتلملم نورها للحب وحده.
تقف روحي بين النوم والصحوة، أسمع الهمس الدافئ،
لحنًا يعزف لي وحدي،
نغمًا يوقظ جنون الشوق ويبحر بي إلى شواطئ العاشقين،
حيث لا قيود،
ولا أوهام،
ولا مكبّرات صوت تتطوّع لذبح الأحلام.

هناك، فوق أمواج الهوى،
تلثم المياه صخور العشق،
يُطلق البحر تنهيداته التي تغرينا بالغوص أكثر،
فنغرق في نشوة سحرٍ لا يشبه إلا نفسه.
إلى أن يأتي الفجر – ككل السلطات –
لا يحب الفوضى ولا يسمح بالتمادي.
يقطع الخيال بنوره،
ينهي الحلم بغدره،
ويعيد القرية إلى طبيعتها…
لكن القلب، رغم ذلك، يستيقظ أكثر امتلاءً.

فالحنين لا يعرف جغرافيا،
والحب لا يحتاج إلى وطن كي يعيش،
ولا يحدّه زمان أو مكان.
يكفيه أن يولد في قلبٍ يعرف كيف يحلم،
ولو كان محاصرًا بضجيج الملك «أحا» وأتباعه.

هكذا هي بلاد الجن والملائكة…
تمنحنا ما لا يمنحنا الواقع،
وتترك في الروح نورًا لا يُطفأ،
حتى حين نحيا وسط صخبٍ لا يخفت
وخيالٍ يصرّ على النجاة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى