بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

هل نحن بحاجة إلى العيد الوطني المعتاد .. أم يكفينا يوم إجازة ؟

الدكتور/ خالد بن عبدالرحيم الزدجالي

 

 

ربما لا يبدأ السؤال اليوم من واقعنا فقط، بل من شعور قديم سبقنا إليه الشعراء.
يقول ابن الرومي في أبياته التي ما زالت صالحة لوصف اللحظة :

«أيُّها العيدُ لا هَنِئتَ بشيءٍ ..
ما لَنا لا نَراكَ تُعطِي المزيدا»

«عادَ عِيدُ الغَنيِّ فينا جديدًا ..
وعَذَابي يَعودُ عِيدًا فَعِيدَا»

«أيُّها العيدُ قد جَفانا الأُناسُ ..
فخلونا نموتُ جهدًا وحيدًا»
– ابن الرومي

هذا الصوت القادم من قرون بعيدة لا يبدو غريبًا عن حاضرنا؛ فالمفارقة بين عيد يحتفل به البعض، وآخر يمرّ ثقيلًا على آخرين، عادت اليوم بوضوح أكبر.

لم يكن العيد الوطني في عُمان يومًا عابرًا في التقويم، بل موسمًا كاملًا من البهجة الوطنية.
كان شهر نوفمبر يتحوّل إلى ورشة كبيرة تتقاطع فيها الفعاليات والافتتاحات والعروض الفنية والتراثية. تتزيّن الشوارع بالأعلام والإنارة، وتحتشد الساحات بالاحتفالات الشعبية، فيما تفتح البيوت أبوابها لليالٍ مفعمة بالأناشيد والقصائد. كانت المناسبة ملكًا للناس قبل أن تكون رسمية؛ مشاعر تنبع من الداخل لا من المنصّات.

وفي تلك السنوات، اعتادت المؤسسات الفنية والثقافية والاجتماعية أن تؤجِّل فعالياتها إلى نوفمبر ليشهدها الجميع تحت راية العيد الوطني. المسرح، الدراما، الأندية، المدارس… جميعها كانت جزءًا من نسيج الشهر.
وحتى الفعاليات الشكلية كانت تمنح الناس إحساسًا بالانتماء، لأنها كانت تُشعرهم بأنهم جزء من حدث جماعي كبير.

غير أن المشهد تغيّر؛ فقد أصبحت المناسبة في كثير من مظاهرها تُسلَّط فيها الأضواء على أصحاب المناصب والتكريمات، بينما ينظر إليها “الصغار” بمعناهم الاجتماعي : عامة الناس، الموظفون، أصحاب الدخل المحدود، المسرَّحون من العمل، والباحثون عن العمل. كثيرون يشعرون بأن الفرح الرسمي لا يلامس واقعهم، وأن المناسبة ابتعدت عن قلب الشارع الذي كان يصنع روحها الحقيقية.

وتراجع حضور الفعاليات الشعبية رافقه تغيّر واضح في تعامل الإعلام مع المناسبة.
فالأنشطة الفنية والثقافية التي كانت جزءًا من روح نوفمبر لم تعد تُغطّى بوصفها امتدادًا للعيد الوطني؛ بل إن بعض الفعاليات الأهلية والخاصة تتعرّض أحيانًا لضغوط غير معلنة لتأجيلها، حتى لا تبدو أكثر حضورًا من الرسمية. وهكذا خسر نوفمبر أحد مصادر تنوّعه، وأصبح الفرح رسميًا أكثر مما يجب، وتلقائيًا أقل مما كان.

وفي الوقت نفسه، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في الطريقة التي يعبّر بها الناس. غير أنها باتت تنقل الحزن أكثر مما تنقل الفرح؛ فبدل أن تكون مساحة للاحتفال الجماعي، أصبحت مرآة للوجع اليومي والخيبات المتراكمة.

أما الإعلام الرسمي فقد مضى في طريق بعيد عن الناس، مكتفيًا بخطاب لا يلتقط نبض الشارع ولا يقترب من همومه، فابتعدت عنه المناسبات الوطنية شعوريًا.

هذا يفتح باب الأسئلة :
هل هذا التحجيم مقصود ؟!
أم سوء تقدير إعلامي وإداري ؟!
هل هو خوف غير مبرّر من تفوّق المبادرات المجتمعية على الرسمية ؟، أم نظرة لا تدرك أن الوطنية تتسع للجميع ؟ ولماذا يُسلب المواطن حقّه في التعبير عن انتمائه بالطريقة التي يعرفها ؟

الوطنية ليست امتيازًا يُمنح على منصة، بل شعور يولد حين يشعر الفرد بأنه جزء من الصورة لا خارجها. والسؤال الأعمق : لماذا أصبح المواطن خارج الاحتفال ؟!

هذا التراجع لا ينفصل عن تحولات أخرى يعيشها المجتمع. نفسيًا : يواجه المواطن ضغوطًا أثقل من أي وقت مضى : ارتفاع تكاليف الحياة، تغيّر سوق العمل، والقلق المستمر من المستقبل، ما يجعل المزاج العام أقل قابلية للاحتفال.

اجتماعيًا : لم يعش الجيل الجديد التجارب التي صنعت ذاكرة الآباء، فتراجع الحس الجماعي لصالح الفردية والعوالم الرقمية.

واقتصاديًا : تركت المعيشة المرتفعة والبطالة وتسريح الموظفين آثارًا عميقة على الأسر، فضعفت قدرة الناس على استقبال المناسبات بروح مرفوعة. فالمواطن الذي يخشى على عمله لن يحتفل بالروح نفسها، لأن الانتماء يبدأ من الشعور بالأمان.

أما إداريًا، فقد تغيّر أسلوب تنظيم الدولة للفعاليات. أصبحت العملية أكثر انتظامًا وأقل ارتباطًا بموسم واحد. وهو توجّه حديث بلا شك، لكنه أضعف الارتباط العاطفي لشهر نوفمبر بالمنجزات والتحولات التي كان المواطن ينتظرها سنويًا.

ولم يزد المشهد وضوحًا إلا تراجع الشاشة المحلية في أداء دورها التقليدي. فالمواطن لم يعد حتى مشاهدًا كما كان؛ المنصات العالمية سرقت اهتمامه وقدّمت محتوى أكثر جودة، بينما انحصر الإعلام المحلي في الخطاب الرسمي، وابتعد عن المواطن وقضاياه، فابتعدت عنه المناسبات الوطنية شعوريًا.

أمام هذا كله، يصبح السؤال مشروعًا: هل نحتاج إلى العيد الوطني كما كان؟ أم يكفينا يوم إجازة؟

الجواب الأقرب إلى الحقيقة: لسنا بحاجة إلى مظاهر ضخمة بقدر حاجتنا إلى عودة الشعور المشترك.

ما يحتاجه المجتمع اليوم ليس منصات مرتفعة ولا عروضًا رسمية، بل مساحة يشعر فيها المواطن أن له مكانًا في الفرح، وأن وطنيته ليست بحاجة إلى تصريح أو إذن أو مقعد رسمي.

والأهم من ذلك، دعم المبادرات الشعبية لا التضييق عليها في خلق أحداث فرح وفعاليات فنية وثقافية تنبع من المجتمع نفسه، لأن الوطنية لا تنمو من الأعلى إلى الأسفل، بل من تفاعل الناس مع لحظتهم وذاكرتهم المشتركة.

ومع ذلك، تبقى الآمال معلّقة على المرحلة التي يقودها جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله – بما تحمله من مسؤوليات في تعزيز الاستقرار، وتوسيع مشاركة الناس في صياغة اللحظة الوطنية؛ بحيث لا يكون العيد مناسبةً تمرّ من فوق رؤوسهم، بل واقعًا يلمسونه ويشاركون في صنعه. فالمستقبل الذي ينتظره المواطنون ليس احتفالًا أكبر، بل شعورًا أعمق بأن الوطن يتسع للجميع، وأن الفرح يعود إليهم .. لا يمرّ من حولهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى