
معاناة القراءة .. أم قراءة المعاناة ؟!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب صحفي وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
saadadham976@gmail.com
حين تتحول الجغرافيا إلى وعيٍ بالوجود، والرواية إلى مرآةٍ للإنسان
«بعض الكتب لا تُقرأ لتُفهم، بل لتُوقظ ما كُنّا نظنه نائمًا فينا»
ثمة كتبٌ لا تُقرأ لتُستمتع بها، بل لتتألم معها، لتختبر حدود الصبر وعمق الوعي. كتبٌ تجعلك تتوقف ثم تعود، تنفر منها ثم تشتاق إليها، لأنها ليست مجرد سردٍ لأحداثٍ من الماضي، بل اختبارٌ قاسٍ لعلاقتنا بتاريخٍ لا نزال نعيش تبعاته.
تلك النصوص التي حين تُكتب بالدمع، لا تُقرأ بالراحة، بل تُستعاد بمكابدةٍ تشبه ما مرّ به مؤلفها وهو يحفر في صخر الحقيقة.
هكذا شعرت وأنا أقرأ العمل الذي تناول النشأة التاريخية للدولة السعودية الراهنة، ذلك الكيان الذي خرج من رحم الصحراء ليصبح محورًا للنفط والسياسة والمال والدين في آنٍ واحد. لم تكن الصفحات مجرّد حكاية عن دولةٍ وُلدت بالسيف والعقيدة، بل كانت مرآةً تعكس رحلة المنطقة كلها في التحول من القبيلة إلى الدولة، ومن البداوة إلى الحداثة المستعارة، ومن الاستقلال إلى التبعية.
تذكّرت وأنا أقرأ رواية «الملح» –للكاتب السعودي عبده خال التي تناولت سردية التكوين الأول للهوية والسلطة في الجزيرة العربية – ذلك اليوم البعيد حين كنت أجلس في قاعة الدراسة نستعرض نشأة الدولة الأولى في نجد، ونتأمل كيف تحوّلت الرمال إلى جغرافيا سياسية ترسم حدودًا للعقيدة والسلطة معًا.
كان المشهد الأكاديمي جافًا، لكن الرواية أعادت إليه نبضه الإنساني؛ جعلت من التاريخ لحمًا ودمًا، ومن الوقائع الباردة أسئلةً حارة عن الوعي والوجود.
أدركت حينها أن ما كنا ندرسه على الورق، كان في جوهره حكاية الإنسان العربي في صراعه مع نفسه قبل صراعه مع الآخر.
إن الحديث عن الدولة الثالثة ليس شأنًا سعوديًا صرفًا، بل شأنٌ عربيّ بامتياز، لأن المسار واحد: تاريخٌ يُكتب تحت رعاية الخارج، وثقافةٌ تُنحت على مقاس السلطة، ومجتمعاتٌ تُربّى على الطاعة قبل أن تتعلم السؤال.
فما بين الرمال التي كانت تحفظ سرّها في الصمت، والنفط الذي جعلها تتكلم بلسان الآخرين، وُلدت حكايةُ الهيمنة الحديثة.
الرواية – أو بالأحرى التجربة الفكرية التي تمثلها – لم تكن توثيقًا جامدًا لماضٍ مضى، بل نبوءةً مبكرة عن حاضرٍ نحياه اليوم.
فالصراع مع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم يكن مجرد احتكاكٍ سياسي، بل معركة وجودٍ بين من يريد أن يصوغ المنطقة على هواه، ومن لا يزال يبحث عن هويته بين ركام الحداثة المعلّبة وشعارات الأصالة الجوفاء.
وإذا كانت الرواية قد غاصت في جذور التكوين السياسي والاجتماعي لتلك الدولة، فإنّ الواقع اليوم يكرر المشهد ذاته على مستوى الإقليم بأكمله: أنظمة تبحث عن أمنها في كنف الحماية الأجنبية، وشعوبٌ تائهة بين التاريخ الممجد والمستقبل الغامض.
إن قيمة هذا العمل أنه يوقظ فينا السؤال المسكوت عنه: لماذا تتكرر الدائرة؟ ولماذا يظل مصيرنا معلّقًا بقرارات الآخرين؟
لقد أراد الكاتب أن يقول لنا إنّ الاستقلال لا يُمنح بالاعترافات الدولية، بل يُنتزع بوعيٍ جمعيّ يعيد صياغة العلاقة بين الشعب والسلطة، بين الثروة والهوية، بين الأرض والإنسان.
وهنا لا أستطيع، ككاتبٍ وباحثٍ في الجغرافيا، أن أقف في محراب القراءة دون أن أستدعي دهشة البحث ذاته.
فمهمة الباحث لا تتوقف عند حدود الورق أو المختبر، بل تمتد إلى تخوم الذات والوجود. لقد علّمتني الجغرافيا – وهي أمّ العلوم – أن كل ظاهرةٍ على الأرض تحمل أثر الإنسان، وأن دراسة المكان ليست إلا قراءةً للزمن وللوجدان الجمعي.
ربما لهذا أصبحتُ كمدمنٍ على البحث، حتى حين يطالب الجسد بالراحة أو تنهك الحياةُ العزيمة.
فالجغرافي الحقيقي لا يكتفي برسم الخرائط، بل يحاول أن يفهم الإنسان وهو يعيد تشكيل حدوده المكانية والفكرية.
تلك فلسفةٌ تُعمّق معنى القراءة ذاتها، وتجعل من كل كتابٍ تضاريس جديدة للوعي.
من يقرأ هذا العمل يدرك أن الأدب الحقيقي ليس ترفًا، بل ضرورة لفهم الذات.
فهو يُعيد كتابة ما لم يجرؤ المؤرخون على قوله، ويضعنا أمام مرآةٍ لا تُجامل أحدًا.
ومهما كانت قسوة القراءة، فهي أهون من قسوة أن نعيش التاريخ ذاته ونحن نظن أننا تجاوزناه.
لقد صار جيل اليوم يواجه المأزق ذاته وإن اختلفت الأسماء والرايات؛ جيلٌ وُلد في زمن السرعة الرقمية لكنه لا يزال مكبلاً بقيود التاريخ القديم.
يبحث عن الحرية وسط الضجيج، وعن الحقيقة في عالمٍ غارقٍ في التزييف.
ولعل أعظم ما يفعله هذا النوع من الأدب أنه يعيد توجيه البوصلة إلى الداخل، إلى جوهر الوعي الجمعي الذي تاه بين الولاء والتبعية، بين الانبهار بالغرب والحنين إلى ماضٍ مثالي لم يوجد قط.
إنّ قراءة مثل هذه الأعمال ليست تمرينًا ثقافيًا، بل فعل مقاومة فكرية ضد النسيان وضد الاستسلام.
فكل صفحة تُقرأ بصدق، هي خطوة في طريق الوعي، وكل وعيٍ يُستعاد هو بدايةُ نهوضٍ جديد لأمةٍ تعبت من إعادة المشهد ذاته بأسماء مختلفة…!!