
يوميات كاتب في زمنٍ يضحك على العقل .. تعيش السمكة .. ويموت الكاتب!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب صحفي وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
تلك القصة القصيرة لعزيز نيسين، التي لم تتجاوز بضعة أسطر، كانت كافية لتُلخّص مأساة أمةٍ بأكملها…
رجلٌ يصطاد سمكة، يفرح بها، يذهب بها إلى بيته كمن يحمل نصرًا صغيرًا على الفقر، لكن في كل مرة يجد عذرًا جديدًا : لا زيت، لا شواية، لا غاز!
فيرمي السمكة في البحر، لتصيح ساخرةً : «تعيش الحكومة!».
وما أشبه الأمس باليوم.
فالمثقفون والكتّاب يعيشون اليوم بين مطرقة الحاجة وسندان التجاهل، يكتبون على ضوء شمعةٍ أُطفئت منذ زمن، في زمنٍ يُكافأ فيه من يبيع الوهم لا من يزرع الوعي.
لم يعد الفكر عملةً متداولة في الأسواق، ولا الكلمة بابًا إلى الخلاص، بل صارت عبئًا على صاحبها، وتهمةً في محكمة الصمت الكبرى.
نحن في عصرٍ يُمنح فيه التصفيقُ لِمَن يُتقن الرقص، لا لِمَن يُتقن التفكير.
الكاتب الجادّ صار يشبه الصياد المسكين في حكاية نيسين، يحمل فكرًا حيًّا لا يجد له “زيتًا” من الدعم، ولا “شواية” من المنابر، ولا “غازًا” من الحرية، فيرمي ما في يده إلى بحر النسيان، لعلّ السمكة تصيح مرة أخرى : «تعيش الحكومة!».
لقد صارت الكتابة اليوم فعلاً من أفعال المقاومة الهادئة.
يكتب الكاتب لا ليُكرَّم، بل ليبقى حيًّا، ليقنع ذاته أنه ما زال موجودًا في عالمٍ يُبجّل الصورة ويُقصي المعنى.
ففي زمن الترفيه السريع والسطحية المعلّبة، صارت الثقافة رفاهيةً مؤجلة، والفكر آخر ما يُطلب على موائد الإعلام والسياسة.
إن ما يعانيه المثقف اليوم ليس فقر الجيب فحسب، بل فقر المكانة وغياب التقدير.
هو المنفيّ في وطنه، الغريب في مؤسّساته، الذي يكتب دون أجرٍ، ويفكر دون جمهورٍ، ويُسأل دومًا عن “الجدوى” كأن الفكر سلعة يجب أن تُباع كي تُعتبر نافعة.
ومع ذلك، يصرّ الكاتب على أن يواصل الكتابة، لأن الحرف آخر ما تبقّى له من كرامةٍ ومن حياة.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا كجرحٍ قديم :
هل انتهى زمن الذين يكتبون بالعقل والضمير؟ أم أن في زوايا الصمت ما زال صوتٌ خافت يقول : “لن أُسكت الحبر، حتى لو جفّ الخبز”.
تعيش السمكة ..
ويموت الكاتب واقفًا كالشجرة، يضحك ساخرًا من زمنٍ يكره الذين يفكرون.