بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين يتحول الهاتف إلى سارق اللحظات والأخلاق

أحمد الفقيه العجيلي

 

في زمن المنصّات، لم يعد الكرم والأخلاق نابعَين من ضميرٍ داخلي وأصالةٍ إنسانية، بل تحوّلا عند البعض إلى محتوى قابلٍ للتسويق!
تُصوَّر الأفعال، وتُوثّق اللحظات، ويُقاس “الخير” بعدد المشاهدات، لا بصدق النية أو عمق الأثر.

أصبح الفعل الأخلاقي مرهونًا بالكاميرا، لا لذاته، بل لما يجلبه من شهرةٍ أو متابعين، فتضيع الرسالة، ويتحوّل العطاء إلى استثمارٍ دعائي.

الكرم الأصيل لا يحتاج جمهورًا، والخير الحقيقي لا يبحث عن تصفيق.
إننا نخسر القيم حين نربطها بالتصوير، ونكسبها فقط حين تصدر من القلب لا من العدسة.

فلنتأمل:
هل نفعل الخير لوجه الله، أم لوجه الجمهور؟
هل نحن في سباقٍ نحو الفضيلة، أم في سباقٍ نحو الظهور؟

إن أعظم الأفعال تلك التي لا تراها العيون، ولا تُدوّنها الكاميرات، لكنها تُخلّد في ميزان الخالق.
فلنُحرّر القيم من فلاشات الاستعراض، ولنُعيد للحظات الإنسانية قدسيتها.
فما كان لله، بقي ونفع، وما كان للناس، زال وانمحى.

ما بدأ كأداة تواصل، أصبح مع الوقت جزءًا لا يتجزأ من يومنا، بل من لحظاتنا الخاصة والدافئة.
الهاتف الذكي – برغم فوائده – بات كمن يزاحمنا على لحظات السكون، ويقتحم أجمل الأوقات دون استئذان.

أثّر الهاتف على الانتباه والتركيز، وولّد شعورًا دائمًا بالقلق والترقّب.
كثيرون لا يستطيعون الانفصال عنه حتى أثناء الحديث أو الصلاة أو النوم.
هذا التشتت المستمر جعل العقل متعبًا، والنفس مشوشة، والعلاقات أكثر سطحية.

في داخل الأسرة، تراجعت الحوارات العفوية، وقلّ الجلوس المشترك بلا مقاطعات.
أصبح كل فرد يعيش في “جزيرته الرقمية”، واللقاء العائلي الذي كان يُنتظر بات محطة عبورٍ سريعة تنتهي بإشعاراتٍ متلاحقة تُقطّع الجلسات وتُضيع الأحاديث.

أما على مستوى المجتمع، فقد بدأت العلاقات تفقد عمقها، والمشاعر تُختصر برموزٍ وصور، والمناسبات تُوثّق للعرض لا للذكرى، والمجاملات طغت على التواصل الحقيقي.
صرنا نعرف أخبار الآخرين من حالاتهم، لا من أحاديثهم.

يقول مؤسس تطبيق تيليجرام:
“لا أستخدم الهاتف منذ عامٍ تقريبًا، إلا لاختبار التطبيق. الهاتف يشتّت الانتباه، ويهدّد الخصوصية، ولا أراه جهازًا ضروريًا.”

قد يثير العجب أن صانع الأداة لا يأنس بها، وأن بائع السم لا يتذوقه!
وليس في هذا دعوةٌ لترك الهاتف، فالعصر قد جعله من ضرورات العمل والتواصل،
لكن الحكمة أن يُستعمل عند الحاجة، فيما ينفع ويختصر الوقت، لا أن يُستعمل عبثًا فيبدّد العمر ويُضعف الخصوصية.

وفي خضم هذا الزحام الرقمي، نحتاج أن نتوقف قليلًا لنسأل أنفسنا:
هل نفعل الخير لوجه الله، أم لوجه الجمهور؟
هل نشارك لحظة عطاءٍ أو دمعةً صادقة لأنها تستحق، أم لأنها تستحق أن تُنشر؟
هل نحن في سباقٍ للفضيلة، أم لمجرد الظهور؟

إن أعظم الأفعال تلك التي لا تراها العيون، ولا تُدوّنها الكاميرات، لكنها تُخلّد في ميزان الخالق.

إن أجمل اللحظات لا تُستعاد، وأغلى ما نملك هو الوقت والناس من حولنا.
فلنمنحهم حضورنا، لا مجرد صورنا.
وما كان لله .. يبقى وينفع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى