بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

الأدب الأوزبكي ومرآة الشرق العربي

من سلسلة: أوزبكستان بعين العربي – بقلم د. محمد السيد يوسف لاشين

 

 

في مدنٍ كانت يومًا معابرَ القوافل، وفي دروبٍ عبَرها الحبر والتاجر والداعية والشاعر، نشأ الأدب الأوزبكي كابنٍ شرعيٍّ لحضاراتٍ التقت عندها الأصوات والأنفاس، كما تلتقي الأنهار عند المصبّ الواحد. ليس أدب أوزبكستان غريبًا على الروح العربية، بل هو مرآة أخرى لشرقٍ واحدٍ يتكلم بلغاتٍ شتّى ولكن بحلمٍ واحد.

من يقرأ أشعار علي شير نوائي — أمير شعراء الأتراك في القرن التاسع الهجري — يشعر كأنه يقرأ محمود الورّاق أو أبا العلاء المعرّي وقد تبدّل لسانهما فقط. فذلك الحزن النبيل، وتلك المناجاة التي تمزج بين الزهد والجمال، وتلك الحكمة التي تسكن بيتًا شعريًا واحدًا كما يسكن النور في قطرة ماء — كلّها تجعل القارئ العربي يجد نفسه في مرآةٍ من حريرٍ ووجعٍ في آن.

لقد عاش الأدب الأوزبكي — مثل الأدب العربي — دورةَ النهوض والانكسار. ففي زمن تيمورلنك وما تلاه، ازدهرت سمرقند وبخارى، وامتلأت المكتبات والقصور بالشعراء والمترجمين والنحاة، وكانت الكلمة هناك توازي السيف في التأثير. ثم جاء زمن الاستعمار الروسي والاتحاد السوفييتي، فانكمش الصوت الأدبي تحت وطأة الأيديولوجيا، وصار الشاعر يقول نصف الحقيقة ويتستر على النصف الآخر ببلاغة الصمت.

ومع ذلك، ظلّت القصيدة الأوزبكية تحتفظ بـ نَفَسها الشرقي الصادق، ذلك النفس الذي لا يرضى بالاغتراب ولا يُقايض الحلم بالنجاة. في قصائد عبد الله قادري وحمزة حكيم زاده نيازي وشوكت رحيموف نلمح وجه العربي الذي كتب عن الغربة والمنفى والحنين. الإنسان هو هو وإن تغيّرت الأزمنة.

ولأن الأدب مرآةُ المجتمع فقد كان الشاعر الأوزبكي صوفيًّا حين يكتب في الحب ومؤرخًا حين يتأمل في الخراب وفلاحًا حين يكتب عن القمح والماء. إنه لا يكتب من برجٍ عاجيٍّ بل من قلبٍ يزرع الكلمة كما تُزرع الشجرة. تلك النزعة الإنسانية البسيطة هي التي تجعل الأدب الأوزبكي قريبًا من النفس العربية التي لا ترى في الشعر ترفًا بل ترى فيه وسيلة للفهم والنجاة والتزكية.

إن القارئ العربي إذا اقترب من هذا الأدب، سيجد فيه ما افتقده في بعض نصوص الحداثة العربية: صفاء النية، ودفء الكلمة، وشجاعة العاطفة. فالشاعر هناك لا يتعالى على قارئه بل يهبط إليه كما يهبط المطر إلى الأرض يُحدث فيها حياةً ثم يختفي بصمت.

لقد آن للأدب العربي أن يمدّ يده إلى نظيره الأوزبكي لا بوصفه أدبًا “بعيدًا”، بل بوصفه فرعًا من الجذع نفسه الذي خرجت منه قصائد بغداد ودمشق وقرطبة. فاللغة مهما اختلفت تبقى أداةً والوجدان واحدٌ كالشمس التي تشرق على الجميع.

ولعل ما تحتاجه مؤسساتنا الثقافية اليوم هو أن تُعيد بناء جسور الترجمة والتبادل بين الأدباء العرب والأوزبك. فما أجمل أن نقرأ “ديوان علي شير نوائي” بترجمة عربية تليق بمقامه، أو أن تُترجم مختارات من الشعر العربي الحديث إلى اللغة الأوزبكية ليعرف القارئ هناك أن الروح التي أنجبت “نوائي” هي ذاتها التي أنجبت “السيّاب” و“درويش” و“محمد حسن فقي”.

إن التقاء الأدبين ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة روحية وثقافية لإحياء ما انقطع من أواصر الحضارة الإسلامية الواحدة. وحين ينصت العربي إلى صوت الشاعر الأوزبكي، يسمع صدى نفسه وقد ارتدّ إليه من بعيد، يقول له: ما زال الشرق حيًّا، ما زال الحرف ساجدًا، وما زال الجمال طريقًا إلى الله.” ذلك هو الأدب الأوزبكي مرآةٌ تُعيد إلى العربي ملامحه التي كاد ينساها وتذكّره أن الكلمة — حين تصدق — لا تعرف جنسية ولا حدودًا بل تعرف فقط الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى