بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

حين تقول الدراما ما لا يُقال : من Designated Survivor إلى طباخ الريّس

الدكتور/ خالد بن عبد الرحيم الزدجالي

 

 

في زمنٍ تتشابه فيه أشكال القيادة رغم اختلاف الجغرافيا، تأتي الدراما لتقول ما تعجز عنه السياسة.

من واشنطن إلى سيول، ومن هناك إلى القاهرة، تطرح ثلاث تجارب فنية السؤال ذاته : من يدير المشهد فعلًا ؟.
هل هو الرئيس الذي يظهر على الشاشات، أم أولئك الذين يصيغون القرارات من خلف الستار ؟.

الإجابات تأتي بلغة الفن في ثلاثة أعمال لافتة :
المسلسل الأميركي Designated Survivor، ونسخته الكورية Designated Survivor : 60 Das، والفيلم المصري طباخ الريّس.

رئيس بالصدفة .. والقوة من خلف الزجاج..

في النسخة الأميركية من Designated Survivor (بطولة كيفر ساذرلاند)، ينفجر مبنى الكونغرس أثناء خطاب حالة الاتحاد، فيُقتل الرئيس وأعضاء الحكومة، ويجد وزير الإسكان المتواضع نفسه رئيسًا للولايات المتحدة بين ليلةٍ وضحاها.
رجل عادي يجد نفسه واجهةً لشبكة من الأجهزة والمصالح التي تتحكم بكل شيء.
القوة ليست في المنصب، بل فيمن يملك المعلومة.

وفي النسخة الكورية (بطولة جي جين-هي)، يتكرر المشهد بصورة مختلفة : تفجير البرلمان يترك وزير البيئة رئيسًا مؤقتًا لمدة ستين يومًا، محاصرًا بالمستشارين والسياسيين.
رئيسٌ في الشكل، لكن القرار الحقيقي في مكان آخر.
ورغم اختلاف اللغة والبيئة، يتوحد العملان في فكرة واحدة : أن القوة تُصاغ من خلف الزجاج، لا من فوق المنصة.

الكرسي الذي يعزل لا الذي يحكم..

في العملين، تتحول الرئاسة إلى عزلة أكثر منها سلطة.
الكرسي الذي يُفترض أن يمنح القرار يصبح حاجزًا بين الرئيس وشعبه.
لا يرى إلا ما تمرره العدسات والتقارير، ولا يسمع إلا ما تنتقيه بطانته.
هكذا تُصنع الأسطورة السياسية : رئيس قويّ في الصورة، ضعيف في الجوهر.
تُدار الدول كما تُدار الإعلانات؛ هندسةٌ للصورة لا مشاركة في القرار.
في عالم السياسة كما في التسويق، الصورة تسبق الفكرة والانطباع يغني عن المضمون.

وفي الغرب، يخاف الرئيس من الصحافة ويعمل لها حسابًا، فهي قادرة على قلب الرأي العام وتحريك مؤسسات الحكم.
أما في الواقع العربي، فالإعلام جزء من المؤسسة ذاتها، صوتٌ في جوقة الصورة لا مرآة لها.
ذلك ما يكشف التفاوت بين بيئةٍ ديمقراطية تُقلقها الكلمة، وواقعٍ تُحاصر فيه الكلمة قبل أن تُقال.

الطباخ الذي علّم الرئيس معنى الجوع..

في القاهرة، يقلب فيلم طباخ الريّس (2008) – بطولة طلعت زكريا في دور “متولي” الطباخ، وخالد زكي في دور الرئيس، وإخراج سعيد حامد – يقلب المشهد رأسًا على عقب.
فيلم بسيط الإمكانيات، عميق الدلالة، يقدم رئيسًا يهبط من قصره إلى الشارع بفضل طباخه البسيط.
“متولي” لا يحمل ملفات ولا تقارير، بل قصص الناس وروائح الخبز وصوت الأسواق.
وحين يخرج الرئيس معه متنكرًا ليرى الشوارع بعينيه، يكتشف أن الحقيقة لا تُكتب في المكاتب بل تُشم وتُلمس وتُسمع.

ورغم طابعه الكوميدي، يظل الفيلم من أصدق ما قدّمته السينما المصرية عن مؤسسة الرئاسة من الداخل، ببساطةٍ تُغْني عن ألف خطابٍ رسمي.

حين يُعاد تمثيل الواقع بالصوت و الصورة..

ما أشدَّ الشبه بين الكاميرا التي تُدار في الاستوديو، وتلك التي تتابع الرؤساء في جولاتهم.
الرئيس الذي “يخرج إلى الناس” لا يفعل ذلك إلا بعد ترتيب المشهد بعناية :
الطريق يُغسل، والموظفون يُنتقون، والمواطن الذي سيُقابله يحفظ سلفًا ما سيقوله.
حتى المفاجأة مكتوبة في السيناريو.
وفي زمن الصورة، تبقى القيادة رهينة الأداء : الزعيم الناجح هو من يجيد تمثيل دوره بإقناع.

لكننا نتذكر رؤساء من جيلٍ آخر – من يدخل وزارةً دون موعد، أو يزور مدرسةً فجراً، أو يظهر فجأة في سوقٍ شعبي يسأل عجوزًا عن حالها، أو يوقف سيارته بنفسه ليدنو من شابٍّ ينتظر في الطريق، فيحادثه ويأمر بقضاء حاجته على الفور.

القيادة بين الصدق والمشهد..

كان من قبلهم من أسس هذا المعنى في التاريخ الإسلامي : عمر بن الخطاب الذي كان يحمل الدقيق بنفسه ليطهوه لطفلةٍ جائعة، فيقول له أحدهم : «دعني أحمله عنك يا أمير المؤمنين»، فيجيبه : «ومن يحمل عني وزري يوم القيامة ؟».
ثم جاء عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم ويبكي خشية الحساب حتى قالوا : “أمِن الذئب والراعي في زمانه”.
ذلك النمط من القيادة لم يكن يحتاج إلى كاميرا لتوثيقه، لأن الصدق كان هو الصورة.

وتَواصَلَ هذا الإرث مع هارون الرشيد الذي كان يتنكر ويمشي بين الناس يسمع شكواهم، ويعين محتاجهم دون حاشيةٍ أو وسطاء.
كانت تلك المواقف الصغيرة أبلغ من كل خطب السياسة؛ لأنها أعادت الثقة بين الحاكم وشعبه،
وأعانته على رؤية وطنه كما هو لا كما تُصوّره التقارير.
فما تفعله جولةٌ عفوية واحدة قد تعجز عنه سنوات من الاجتماعات.

الدراما .. مرآة الشعوب وعدسة الوعي..

حين تتكلم الدراما، يصمت الضجيج، لأن الفن يرى ما لا تراه العيون المعتادة.
ذلك القرب بين الحاكم والناس صنع ثقةً متبادلة؛ أعان الرئيس على فهم شعبه، وأعان الشعب على فهم رئيسه.
اليوم، حين تتحدث الدراما عن رئيسٍ يتعلّم من الناس، فإنها لا تبتكر فكرة، بل تستعيد زمنًا كان فيه النزول إلى الميدان فعلًا لا مشهدًا.
ولهذا تبدو تلك الأعمال الثلاثة – الأميركية والكورية والمصرية – مرايا إنسانية لعصرٍ لا يستطيع أحد فيه أن يفلت من عدسة الدراما ولا من ذاكرة الشعوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى