
أردوغان وورقة غزة : كيف حوّل صفقة ترامب إلى مكسب استراتيجي لأنقرة!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب صحفي وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
في لحظة بدت فيها واشنطن عاجزة عن إقناع حركة حماس بقبول اتفاق غزة، دخلت أنقرة على الخطّ كلاعبٍ يعرف متى يضغط ومتى يساوم. لم يكن تدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذه المرة مجرد محاولة لتسجيل حضورٍ دبلوماسي، بل كان توظيفًا محسوبًا لفرصة نادرة تُمكّنه من إعادة التموضع في قلب النظام الإقليمي الجديد الذي تُعيده إدارة ترامب إلى الطاولة. لقد تحوّلت علاقة أنقرة بحماس من عبءٍ سياسي ثقيل في نظر الغرب إلى ورقة تفاوضية رابحة.
فحين طالبت واشنطن حماس بالإفراج عن الرهائن ووقف القتال، كانت القيادة في غزة تتلكأ، إلى أن جاء “النداء التركي” الذي حمل رسالة حاسمة : آن الأوان للقبول. وبقبول حماس، وبتصريحٍ حافل بالمجاملات من ترامب بحق أردوغان، وُضعت تركيا من جديد في موقع الوسيط الموثوق، بل والحليف الذي يمكن التعويل عليه في ملفات الشرق الأوسط.
ما فعله أردوغان لم يكن محض وساطة إنسانية، بل عملية هندسة سياسية عميقة؛ فقد ربط الخطة الأميركية بغرضٍ أكبر : فتح الأبواب المغلقة بين أنقرة وواشنطن، من صفقة الطائرات F-35 المجمدة، إلى تخفيف العقوبات المفروضة على تركيا بسبب منظومة الصواريخ الروسية. إنه يستثمر “حسن النية” الأميركي الجديد كعملة سياسية قابلة للصرف في ملفاتٍ متعددة، من سوريا إلى شرق المتوسط.
ولعلّ ما جرى في البيت الأبيض خلال زيارة أردوغان الأخيرة لواشنطن يؤكد هذا التوجه.
فاللقاء لم يكن بروتوكوليًا، بل إعادة معايرةٍ شاملة للعلاقات بين البلدين. ترامب أراد دورًا ناجزًا في غزة، وتركيا أرادت اعترافًا أميركيًا بدورها الإقليمي. النتيجة : تقاطع مصالح نادر، ونافذة مفتوحة لأنقرة لتوسيع نفوذها في الملف السوري عبر الضغط لتذويب “قوات سوريا الديمقراطية” في الجيش السوري الرسمي، وهو ما بدأ يتحقق تدريجيًا.
نجاح أنقرة في تمرير اتفاق غزة لا يُقرأ في سياقٍ منفصل، بل ضمن سلسلة خطوات مدروسة تعيد لتركيا مكانتها بعد سنواتٍ من العزلة النسبية. من وساطتها بين موسكو وكييف إلى محاولاتها فتح قنوات مع القاهرة والرياض، كلها حلقات في مشروعٍ أكبر يسعى من خلاله أردوغان إلى إعادة صياغة الدور التركي كقوة سنيّة مركزية، تستند إلى إرثٍ عثماني لا يخفيه الرجل في خطاباته.
غير أن هذا الصعود التركي الممهور بتوقيع “صفقة غزة” لم يمر دون قلق في العواصم العربية، خصوصًا القاهرة والرياض وأبوظبي. فاستعادة أنقرة زمام المبادرة في أحد أكثر الملفات حساسية بالنسبة للعرب، يعني إعادة تشكيل توازنات النفوذ التقليدية في المنطقة.
وبقدر ما يراه البعض انتصارًا دبلوماسيًا لأنقرة، يراه آخرون عودة غير مرغوبة لشبح “العثمانية الجديدة” بثوبٍ إنساني ودبلوماسي هذه المرة. في المقابل، يواجه هذا الدور تحدياتٍ موضوعية. فصفقة غزة لم تُقدّم رؤية واضحة لحلّ الدولتين، ولا تضمن مستقبلًا سياسيًا للفلسطينيين يتجاوز الهدنة. لذا، فإن قدرة تركيا على تحويل هذا النفوذ المؤقت إلى مكسبٍ دائم ستتوقف على مدى قدرتها على ترجمة اتفاق الهدنة إلى مشروعٍ سياسي قابل للحياة.
اليوم، يحاول أردوغان أن يقدّم نفسه كـ”عرّاب سلامٍ إقليمي” دون أن يتنازل عن أدوات النفوذ الخشنة التي راكمها في السنوات الأخيرة. إنه يمارس سياسة التوازن بين واشنطن وموسكو، وبين تل أبيب وحماس، وبين الخليج ودمشق، وكأنه يعيد كتابة خريطة الشرق الأوسط بأدوات القوة الناعمة المدعومة بصلابة استخباراتية ودبلوماسية نشطة.
في النهاية، ما حدث في غزة لم يكن مجرد صفقة لوقف النار، بل اختبار حقيقي لإعادة توزيع موازين القوى في المنطقة. وتركيا، التي كانت تُحاصَر بالملفات المعقدة، خرجت من الباب الذي لم يكن أحد يتوقعه، لتجلس مجددًا على طاولة الكبار. إنها لحظة أردوغانية بامتياز – بين الواقعية السياسية والطموح الإمبراطوري – تُظهر أن أنقرة باتت تعرف كيف تُحوّل كل أزمة إلى فرصة، وكل صفقة إلى ورقة نفوذ جديدة.












